كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

عطف على أنه للتفسير والتخصيص بعد التعميم، ويحتمل أن يكونا وجهين الأوّل إشارة إلى ما ذكره الإمام من أنّ الإنسان مخلوق من النطفة والطصث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة، والثاني ظاهر ففي الآية ثلاثة وجوه وعلى الثالث تحتمل من التبعيضية ويكون قوله ابتدأ بيانا للواسطة فقط، وهو خلاف الظاهر، وفي الآية التفات لأنّ الخطاب وان صح كونه عافآ لكنه خاص بالذين كفروا، كما يقتضيه ثم أنتم تمترون ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة والشكر عليه أوجب، وقد أشير في كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد وما بينهما. قوله:) ثم قضى الخ (قيل أي قدر وكتب فثم للترتيب في الذكر دون
الزمان لتقدمه على الخلق، وما ذكره ظاهر إن أراد بالقضاء والقدر ما وقع في الأزل ولكن لا حاجة إليه ولذا قيل الظاهر أنه بالمعنى الحقيقيّ وهو الترتيب بأن يراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به الملائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين: " إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أرشين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً ويؤمر بأربع. كلمات ويقل له اكتب عمله ورزقه وشقئي أم سعيد " الحديث) 1 (ومن أراد بسط هذا المقام فلينظر شروحه، وقيل إن كان قضى بمعنى أظهر فثم للترتيب الزمانيّ على أصلها وإلا فهي للترتيب الذكري.
قوله: (وأجل مسمى) في شرح الكشاف الأجل يقال بمعنى الوقت المعين لانقضاء شيء
ولم يقع فيه مجازاً كالموت ولمجموع المدة كالعمر وعليه تدور وجوه التفسير فنزل كلامه على كل مناسبة وقوله يطلق لآخر المدة ضمنه معنى يستعمل وإلا فالأصل تعديه بعلى، والواو هنا إمّا للحال أو للعطف. قوله:) وقيل الآوّل الخ) حاصل ما ذكره أربعة أوجه صريحة وواحد ضمنا فهي خمسة أحدها أنّ الأجل الأوّل أجل الموت والثاني أجل القيامة ووجه تقييد الثاني بكونه عنده أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله والأوّل أيضاً وان كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [سورة لقمان، الآية: 34، لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كأن كذا قيل، وقيل: إنه يعلم بالسن وانقراض الإقران قربا وبعدا، وان لم يتعين حقيقة أو الملائكة أطلعهم الله عليه وفيه نظر والثاني أنّ الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث، ووجه التقييد بعنده في الثاني يعلم مما مز، والثالث كون الأوّل النوم والثاني الموت ولا يخفى بعده لأنّ النوم وان كان أخا الموت لكن لم يعهد تسميته أجلاً وان سمي موتا، ووجه تقييد الثاني بالنسبة إلى الشخص نفسه، والرابع كون الأوّل أجل من مضى وهو معلوم بخلاف من بقي ومن يأتي ووجه التقييد ظاهر، والخامس أنّ لكل شخص أجلين أجلا تكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وأجلاً مسمى عنده لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره وسيأتي تحقيقه. قوله: (والاستئناف الخ (جوّز بعضهم أن يكون الاستئناف بمعنى جعله مبتدأ غير معطوف على ما قبله وآخرون إنه بمعنى كونه واقعا في ابتداء الكلام غير
مؤخر على ما هو المستفيض في كلامهم كما سيأتي، وردّ الأوّل بأنه يأباه قوله ولأن المقصود بيانه ولا وجه له لأنه لو عطف على ما قبله كان تابعا له، وهو ينافي كونه مقصوداً وهذا ظاهر غاية الظهور، ويؤيده أنّ الاستئناف بمعنى القطع شائع في كلامهم، وأمّا بمعنى التصدير فغير مشهور نعم هو على هذا الوجه يخلو عن الفائدة التي في كلام الكشاف، والظاهر عدم تركها، ومحصلها أنّ الظرف إنما يجب تقديمه إذا لم يكن ثمة مسوّغ آخر كالوصف هنا لكن النكرة الموصوفة بالمعروف فيها التأخير في استعمال البلغاء فيقولون عندي عبد كيس ولي ثوب جيد وفي ملكي كتاب نفيس لا يكادون يتركون تقديم خبره إلا لمقتف!! ، وهنا أوجب تقديم النكرة أنّ المعنى، وأفي أجل مسمى عنده ت! غيماً لشأن الساعة فلما- جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم، قال الطيبي: هذا بيان لمعنى التنكير والتهويل فيه لا أنّ الكلام متضمن لمعنى الاستفهام كما ظن، وقيل ظاهر عبارة الكتاب أن هذا التعظيم مستفاد من الاستفهام المعتبر في معنى هذه النكرة كأنه لغرابته، وعظيم رتبته مما يسئل ويستفهم عنه والاستفهام يقتضي صدر الكلام وبه! ذا يندفع ما يقال أنه يكفي في إيثار التقديم الترجيح وأيّ حاجة إلى اعتبار الوجوب والإيجاب كما في عبارة الكتاب ولا يحتاج إلى تأويله بأنّ الراجح واجب في حكم البلاغة، وكلام الزمخشريّ يخالف قول السكاكي أنّ النكرة الموصوفة يجب تأخرها فلا يتأتى الجواب عنه بأنّ عدم الوجوب باعتبار الصناعة النحوية وما ذكره الزمخشرفي باعتبار استعمال البلغاء، ثم إنّ معنى كلام المصنف رحمه الله أنه قصد هنا التعظيم فقدّم للاهتمام بما قصد تعظيمه ولا ينافي كون التعظيم من التنكير أيضا فلا مخالفة بين كلامه وكلام الكشاف كما قيل وإنه أقرب منه لأنه لا يظهر دلالته على التعظيم إلا إذا لوحظ التنكير، وقال بعض الفضلاء فان قلت ليس قصد التعظيم للمبتدأ موجباً لتقديمه، ولهذا لم يعدّ في علم المعاني من الأحوال المقتضية له قلت قد أدرج المصنف الجواب عن هذا في أثناء تقريره بقوله إنّ المعنى وأيّ أجل مسمى عنده بمعنى أن أجلاً في معنى أفي أجل فكما أنّ أقي أجل واجب التقديم فكذا ما هو بمعناه، وأورد عليه قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} [سورة المؤمنون، الآية: 62] فإنّ المعنى على أفي كتاب ولا يخفى أنّ ما قصد تعظيمه أهثم عند المتكلم والأهمية من مقتضيات التقديم كما صرّح به في متون المعاني، ثم أنّ المرجح قد يعارضه مرجح آخر خلافه فيجري كل منهما على حسب مقتضى مقامه ولذا قالوا إنّ النكات لا تتزاحم وفي شرح الكشاف هنا مباحث أخر تركناها خوف الإطالة، واذ قد تبين أنّ مراد الزمخشري بيان محصل المعنى لا أنّ ثمة استفهام مقدر اندفع ما اعترض به عليه من أنه لا يجوز أن يكون التقدير أفي أجل مسمى عنده لأن أيّ حينئذ صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أفي أجل مسمى عنده، ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ولا حذف موصوفها، وإبقاؤها فلو قلت مررت بأيّ رجل تريد برجل أفي رجل لم يجز! مع أنه ردّ بأنه سمع ذلك كقوله:
إذا حارب الحجاج أيّ منافق علاه بعضب كلما هزيقطع
فإنهم قالوا تقديره منافق أيّ منانجق. قوله: (مثبت معين لا يقبل التغيير الخ) يوهم باعتبار المقابلة أنّ الأوّل يقبل التغيير والتأثير في تغييره إما من الخلق بالقتل ونحوه وهو ليس مذهب أهل السنة كما بين في محله أو من الخالق وهو أيضاً مما اختلفوا فيه فقيل الأرزاق والآجال مقدرة لا تتغير عما علمه الله، وأتا ما ورد في الأحاديث من أنّ صلة الرحم تزيد في العمر ونحوه، فقد قيل فيه إنّ المراد الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة أو هو بالنسبة لما يظهر للملائكة في اللوح المحفوظ وبه فسر قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [سورة الرعد، الآية: 39] وقيل المراد طوله ببقاء الذكر الجميل وهو ضعيف، وقال الماوردي وحمه الله قد تقرّر أنه تعالى عالم بالآجال والأرزاق وغيرها وحقيقة العلم معرفة المعلوم على ما هو عليه فإذا علم الله موت زيد في زمن كذا استحال موته قبله أو بعده وعلى هذا حمل قوله تعالى ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده كذا في شرح مسلم وهو وجه من وجوه هذه الآية ومعنى عنده أنه مستقل بعلمه وفيه إشارة إلى أن علمه حضوريّ ليس كعلمنا، وقيل الأجلان واحد والتقدير، وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف وعنده خبر بعد خبر أو متعلق بمسمى. قوله: (ولأنّ المقصود بيانه الأن الآية سيقت لبيان البعث وهو الدال عليه في الوجوه الثلاثة الأول وأما في الأخير فلأنه حينئذ ظاهر في الدليل إلا نفسي وفي نسخة ولأنه المقصود بيانه بالذات.
تنبيه: أعلم أنه قال في الكشاف فإن قلت الكلام السائر أن يقال عندي ثوب جيد ولي
عبد كيس، وما أشبه ذلك، فما أوجب التقديم قلت أوجبه أنّ المعنى وأقي أجل مسمى عنده تعظيماً لشأن الساعة، فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم، وقال النحرير: يعني أنه قدم لأنه قصد التعظيم فإنه مما يناسب الاهتمام التقديم، وظاهر عبارة الكتاب أن هذا التعظيم مستفاد من معنى الاستفهام المعتبر في مثل هذا المنكر كأنه لغرابته، وعظم رتبته مما يسأل عنه ويستفهم عن حاله، والاستفهام يقتضي صدر الكلام، وبهذا يندفع

الصفحة 12