كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

من القوّة والسعة) إشارة إلى أنّ مكناهم كناية عن إعطاء ما تمكنوا به من أنواع التصرف فقوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} بمعنى ما لم نعط فما مفعول به وإليه أشار في الكشاف حيث قال والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عاداً وثمودا وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال والاستظهار بأسباب الدنيا فلم يهمل موقع ما كما ظنه النحرير والوجه الأوّل ناظر إلى أنّ مكنا بمعنى جعلنا لهم مكانا وهو كناية عن السعة وطول المقام والثاني ناظر إلى أنه بمعنى التقرير والتثبيت وهو كناية عن القوّة المذكورة ويصح أيضا جعله مفعولاً مطلقاً على أنه بيان لمحصل المعنى، ثم إذا كانت ما بمعنى تمكينا فالمراد التثنية نحو ضربته ضرب الأمير وأشار في الكشاف إلى أنه من التشبيه المقلوب وهو أبلغ لأنّ تمكن عاد ونحوهم أقوى فالظاهر جعله مشبهاً به، وما قيل في بيان كلام المصنف رحمه الله هنا إنه من المكنة أي القدرة وما موصولة بحذف العائد وهي كالبدل من المكنة المدلول عليها بمكنا، وان جعلناه لمجرّد الإعطاء يكون مفعول أعطينا وما ذكر في الكشاف المعنى على عكسه، فإنّ المعنى أعطينا عاداً وغيرهم ما لم نعط أهل مكة انتهى يعلم ما فيه مما مر مع أنّ جعله من المكنة بضم فسكون بمعنى القدرة لا يصح لأنّ المكنة بهذا المعنى لا أصل لها في اللغة وان كانت شائعة في كلام العوام وجعل ما في تقريره صفة وقد صرّح أبو حيان بمنعه وأنه لا يوصف بغير الذي من الموصولات وقوله كالبدل لا يخفى ما فيه من الخلل، والعدد بالضم جمع عدة وهي السلاح ونحوه ولكم في النظم التفات ميز به بينهم وبين أهل مكة ليتضح مرجع الضميرين وهذه نكتة في الالتفات لم يعرّج عليها أهل المعاني وله وجه آخر وهو مواجهتهم بضعف حالهم تبكيتا لهم. قوله: (أي المطر أو السحاب الخ) السماء على هذين مجاز، وهو
مشهور، وعلى الآخر حقيقة والتجوّز في إشاد الإرسال إلى السماء لأن المرسل ماء السحاب واليه أشار بقوله فإنّ مبدأ المطر منها، والمظلة بلفظ اسم الفاعل، والمدرار مفعال كمنحار صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث ومغزارا من الغزارة وهي الكثرة. قوله: (فعاشوا في الخصب والريف) الخصب بالكسر كثرة الزروع والثمار ضد الجدب، والريف هنا سعة المأكل والمشرب والاً رض القريبة من الماء ولا ينبغي تفسيره هنا بأرض فيها خصب وزرع ولم يقل أجرينا الأنهار كما قال أرسلنا السماء للدلالة على كونها مسخرة مستمرّة الجريان لا لأنّ النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأنّ النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم ولو كان ما ذكره صحيحا لما ورد في النظم كقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [سورة البقرة، الآية: 25] والظاهر أن جعلنا هنا بمعنى أنشأنا أوجدنا وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب وفاء فأهلكنا للتعقيب لا فصيحة لأنّ بذنوبهم لا يقتضي ما قدروه وهو فكفروا بل يأباه فتأمّل. توله: (وينشئ مكانهم آخرين الخ) يعني أنه تتميم لما قبله كما قال الزمخشري لأنه لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخرب بلاده منهم فإنه قادر على أن ينشئ مكانهم آخرين يعمر بهم بلاده كقوله: {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [سورة الشمس، الآية: 5 ا] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم، ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين، وكونهم من بعدهم. قوله: (مكتوباً في ورق) في نسخة في رق ويشير به إلى أنّ الكتاب بمعنى المكتوب والجارّ والمجرور صفة كتاب أو متعلق بنزلنا والقرطاس بكسر القاف، وضمها معرب مخصوص بالمكتوب، أو أعم منه ومن غيره. قوله: (فلا يمكنهم أن يقولوا إنما الخ) أي لا يحتمل أن يقولوا إذا ترك العناد والتعنت، واعترض با! اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئيّ مخيلاً، وأمّا نزوله من السماء فلا يثبت به، وأجيب بأنه إذا تأيد الإدراك البصري في النزول بالإدراك اللمسي في المنزل يجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزماً لا يحتمل النقيض، فلا يبقى بعده إلا مجرّد العناد مع أنّ حدوثه هناك من غير مباشرة أحد يكفي في الإعجاز كما لا يخفى. قوله: (وتقييده بالأيدي الخ) سواء كان اللمس مخصوصا باليد لقول الجوهري اللمس المس باليد أو أعم لقول الراغب في مفرداته المس إدراك بظاهر البشرة كاللمس، وهو ظاهر قول المصنف رحمه الله في سورة الجن اللمس المس مستعار
للطلب كالجس ووجه دفع التجوّز ظاهر كما في قولهم نظرت بعيني ويقولون بأفواههم وقيل في وجهه أن التنصيص على القيد المعتبر يفيد اعتباره فيكون تأكيداً للشيء لإعادة جزئه المقصود منه فكأنه إعادة له

الصفحة 21