كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وايجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح قاله النحرير: يعني أنّ كليهما مطلوب لكن الأوّل للثاني وأمّا ثم انظروا فإنما لم يحمل على التراخي لأنّ واجب النظر آثار الهالكين حقه أن لا يتراخى عن السير، وقيل يجوز أن يكونا واجبين، وثم لتفاوت ما بينهما كما في توضأ ثم صل، وقال الراغب رحمه الله: قيل المراد بالسير المترتب عليه النظر إجالة الفكر ومراعاة أحواله كما روي في وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبدانهم في الأرض! سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة.
(وأورد عليه أبحاث) الأوّل أنّ واجب النظر لما كان حقه أن لا يتراخى عن السير كان المناسب حينئذ ترك لفظ يوهم خلاف المقصود وايراد لفظ يفيده بلا إيهام فإنه مما يجب مراعاته كما تقرر في المعاني، والثاني أن السير من حيث هو سير مباح إلا أن يقيد بقيد يفيد وجوبه فإذا قرن بفاء السببية أمكن حمله على الواجب لأن السير للنظر واجب كالنظر كما أن السير للتجارة مباح كالتجارة ف! ذا قرن بثم فلا وجه لحمله على الواجب إذ ليس في اللفظ ما يشعر به وبين السير والوضوء فرق لا يخفى على من له ذوق، وفي كلام النحرير إشارة إلى ضعفه ثم قال: والتحقيق أنه تعالى قالط هنا ثم انظروا وفي النمل {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [سورة النمل، الآية: 69] وفي العنكبوت: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [سورة العنكبوت، الآية: 20] وفي الروم: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [سورة الروم، الآية: 42] فلا بد من بيان وجه تخصيص هذه الآية بثم ولعله أن الفاء تدلّ على أن السير يؤدّي إلى النظر، فيقع موقعه بخلاف ثم ولذا وقعت الفاء في الجزاء فهنا لم يجعل النظر واقعاً عقب السير متعلقاً وجوده بوجوده بل بعث على سير بعد سير لما تقدمه من بعثهم على استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد وأن يستكثروا من ذلك ليروا الآثار في ديار بعد يار إذ قال: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ} [سورة الأنعام، الآية: 6، الآية فقد دلّ الأوّل على أن الهالكين طوائف كثيرة، والثاني على أن المنشا بعدهم أيضاً كثيرون، ثم دعا إلى العلم بالسير في البلاد ومشاهدة آثار أهل الفساد مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من ملاصقة السير بخلاف المواضحع الأخر وهو كلام أكثره واه لكن تحريره وتهذيبه يحتاج إلى تطويل فتأمله، ثم إن أبا حيان رحمه الله اعترض! على الزمخشري بأن ما ذكره متناقض لأنه جعل النظر مسبباً عن السير وهو سبب له، ثم جعل السير معلولاً له حيث قال كأنه قيل سيروا لأجل النظر وأجيب بأن النظر علة للسير باعتبار وجوده الذهني، ومعلول له باعتبار وجوده العيني كما في عامّة العلل الغائية فلا تناقض فإن السبب قد يكون مقدمة للمسبب غير مقصود في ذاته بل ليقع المسبب نحو سرت ففزت بلقائك
وسافرت إلى مكة فحججت، وقد يوقع قصداً من غير نظر إلى المسبب نحو ضربته فبكى وزنى فرجم وقد سبقه إليه بعض المفسرين فقال: هو مسبب وسبب باعتبارين فالنظر سبب في السير بمعنى العلة الغائية فهو سبب ذهنيّ والسير سبب وجودي موصل إلى النظر. قوله: (ولا كذلك هاهنا ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة الخ) أو رد عليه أنه يأباه سلامة الذوق لأنه إقحام أمر أجنبيّ كبيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالاً ظاهر اهـ، وهذا هان تراءى في بادئ النظر لكنه غير وارد إذ هو غير أجنبيّ لأنّ المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله وليتمتعوا. قال العلامة: ثمة في تفسيره هو مجاز عن الخذلان والتخلية وأنّ ذلك الأمر متسخط إلى الغاية ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدّي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الأباء والتصميم حردت عليه وقلت أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك تقول له فإذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك إفعل ما شئت انتهى، ومنهم من ذهب إلى أن السير متحد فيهما، ولكنه أمر ممتد يعطف بالفاء تارة نظر الآخرة، وبثم نظراً لأوّله ولا فرق بينهما. قوله: (وهو سؤال تبكيت الخ) في الأساس بكته بالحجة غلبه وألزمه ما سكت به لعجزه عن الجواب عنه، والمقصود

الصفحة 26