كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجراً إلا أنهم عازمون على أنهم لو ردّوا لآمنوا وقيل إنه في المنافقين وإنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرّونه، وقيل هو في أهل الكتاب وأنه يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ردّوا إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمعاصي فهذه ثلاثة وجوه، الأوّل إنه في المشركين وإنه أظهر الله قبائحهم من غير الشرك أو الشرك الذي أنكروه في موقف آخر فتمنوا ضجرا ما تمنوا إلا عزما وقدمه لأنه الظاهر إذ ما قبله متعلق بهم فانهم في بعض المواقف جحدوا الشرك وقالوا: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} ففضحهم الله، والثاني أنه في المنافقين لأنهم الذين كانوا يخفون الكفر ولكنه لا يناسب ما قبله، والثالث أنه في أهل الكتاب مطلقاً أو علمائهم والذي أخفوه نبوّة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وقيل المراد بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يرد أنّ المناسب خفاؤه لا إخفاؤه لأنّ الإخفاء يستلزم الخفاء مع ما فيه من توبيخهم بقبيح وصفهم، وقدم المصنف رحمه الله كونه في المنافقين لملاءمته لظاهر الآية ولو أخره لكان أولى وترك الثالث لأنه ليس في السياق والسباق ما يدل عليه. قوله: (لا عزما الخ) أي ليس عزما معتذاً به لعلم الله بتخلفه لو عادوا كما يدل عليه قوله ولو ردّوا الخ ولا ينافيه تصميمهم عليه عند شدة الأهوال وقيل عزماً صحيحاً بإرادة نفس الطاعة والإيمان من حيث هو فإنه كان لخوف العقاب لا لذاته وفيه نظر، وقوله: فتمنوا ذلك بناء على أنّ ما سبق داخل في حيز التمني ظاهر وأما على الوجه الأخير ففيه تأمّل ثم إن هذا هل يدل على جواز الكذب يوم القيامة أم لا فيه كلام في شروح الكشاف وقد مرّ تفصيله. قوله: (بعد الوقوف والظهورا لسبق قضاء الله بذلك فانهم لخبث طينتهم ونجاسة حليتهم يذهلون عما رأوه فلا يرد أنّ العاقل لا يرتاب فيما شاهده حتى يعود إلى موجب العذاب الأليم، وأمّا أن المراد أنهم لو ردّوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة على أنه من إعادة المعدوم فلا يناسب مقام ذمّهم بغلوّهم في الكفر والإصرار وكونه جوابا لما مرّ من تمنيهم. قوله: (من الكفر والمعاصي) إشارة إلى ما مرّ في نصب ونكون وحده من أنّ عدم تكذيبهم بآيات الله تصديقهم بها وهو عين كونهم مؤمنين فكيف يقع جوابا له وقد دفع بأنا لا نسلم أنّ المراد به ذلك وليس عدم التكذيب بها عين التصديق ولا مستلزما له كمن
نشأ في شاهق جبل فإنه ليس بمكذب ولا مصدق لعدم بلوغها إياه ولو سلم فالمراد بقوله ونكون من المؤمنين من الكاملين في الإيمان وعدم استلزام انتفاء التكذيب لهذا الإيمان بين ويومئ إلى هذا قول المصنف رحمه الله من الكفر والمعاصي فافهم. قوله: (فيما وعدوا من أنفسهم (إشارة إلى دفع ما قيل التمني إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب فكيف قيل لانهم لكاذبون فأجاب الزمخشرقي عنه بأنه بعض العدة فدخله ذلك باعتبار ما تضمنه كما تقول ليت لي مالاً فالأحسن إليك فلو رزق مالاً ولم يحسن إليه قيل إنه كذب عليه وصح أن يوصف بأنه كاذب، وقيل إنه ليس تكذيباً للتمني بل ابتداء أخبار منه تعالى بأنّ ديدنهم وهجيراهم الكذب، وأمّا قول الربعي أنّ التمني يحتمل الصدق والكذب محتجاً بقوله:
مني أن يكن حقاً يكن أحسن المنى والاف! ل! ا! از! أر! را
لأنّ الحق بمعنى الصدق وهو ضدّ الباطل والكذب فلا يخفى ما فيه مع أنه لو سلم فهو مجاز أيضا والمصنف رحمه الله اقتصر على أنّ الكذب عائد إليه باعتبار ما تضمنه من الخبر لظهوره إذ كل إنشاء يتضمن خبرا وهو المراد، وأمّا أن الوعد والوعيد هل هما من قبيل الخبر او من قبيل الإنشاء كما حقق في الأصول فإن كان مذهب المصنف رحمه الله الأوّل فكلامه هنا وفيما سبق ظاهر، وإن كان عنده إنشاء كما ذهب إليه الأكثرون فاستدلوا بأنه يتمدح بخلف الرعيد كما قال الشاعر:
واني وان أوعدت " ووعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
ولو كان خبراً لكان حنفه كذبا لا يتمدح به فمراده ما مز أو المراد بالكذب عدم الوفاء به
لا عدم مطابقته للواتع كما ذكره الراغب وأوّله به بعضهم هنا وفي قوله لما نهوا عنه إشارة أيضا إلى أن دأبهم العناد

الصفحة 44