كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

إنه استعارة تبعية وبعضهم جعل الباء للمقابلة وكلام المصنف رحمه الله يأباه لتغاير المقابلة، والبدلية كما في المغني لكنه قيل المقابلة أوفق بمذهب أهل السنة. قوله: (ولقاء الله البعث الخ (يعني أنه استعارة تمثيلية كما قال المصنف رحمه الله في سورة العنكبوت إنه تمثيل لحاله بحال عبد قدم على سيده بعد زمان مديد، وقد اطلع السيد على أحواله فإما أن يلقاه ببشر لما يرضى من أفعاله أو بسخط لما يسخط منها وفسره في العتكبوت بالجنة ومرّض ما هنا لأنه هنا مع منكري البعث وهناك عامّ، قيل روي عن عليّ رضي الله عنه وكرّم وجهه أنه نظم أبياتا على وفق هذه الآية وفي معناها وهي:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا يحشر الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أوصح قولي فالخسارعليكما
(قلت) لا أدري من أيهما أعجب الرواية أم الدراية فإنّ هذا الشعر لأبي العلاء المعري في ديوانه وهو:
قال المنجم والطبيب كلاهما ~ لا تبعث الأموات قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر ~ أو صح قولي فالخسار عليكما
أضحى التقى والشرّ يصطرعان في ~ الدنيا فأيهما أبرّ لديكما
طهرت ثوبي للصلاة وقبله ~ جسدي فأين الطهر من جسديكما
وذكرت ربي في ضميري مؤنساً ~ خلدي بذاك فاوحشا خلديكما
وبكرت في البردين أبغي رحمة ~ منه ولا تريان في برديكما
إن لم تعد بيدي منافع بالذي ~ آتي فهل من عائد بيديكما
برد التقيّ وأن تهلهل نسجه ~ خير يعلم الله من برديكما
قال ابن السيد في شرحه: هذا منظوم مما روي عن عليّ رضي الله عته أنه قال لبعض من تشكك في البعث والآخرة إن كان الأمر كما تقول من أنه لا قيامة فقد تخلصنا جميعاً وان لم يكن الأمر كما تقول فقد تخلصنا، وهلكت فذكروا أنه ألزمه فرجع عن اعتقاده، وهذأ الكلام وان خرج مخرج الشك فإنما هو تقرير للمخاطب على خطابه وفلة أخذه بالنظر والاحتياط لنفسه مع أنّ المناظر على ثقة من أمره، وهو نوع من أنواع الجدل، وقوله إليكما كلمة يراد بها الرح والزجر ومعناها كفا عما تقولان وحقيقته قولكما مصروف لكما لا حاجة لي به انتهى ومن له معرفة بقرض! الشعر يعلم أنه شعر مولد.
تنبيه: هذا النوع يسمى استدراجاً قال في المثل السائر الاستدراج نوع من البلاغة استخرجته من كتاب الله تعالى وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات الأفعال يستدرج الخصم حتى ينقاد ويذعن وهو قريب من المغالطة وليس منها كقوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [صورة غافر، الآية: 28] ألا ترى لطف احتجاجه على طريقة التقسيم بقوله إن يك كاذبا فكذبه عائد عليه، وأن يصدق يصبكم بعض ما وعدكم به ففيه من الإنصاف والأدب ما لا يخفى فإنه نبي صادق فلا بد أن يصيبهم كل ما وعد به لا بعضه لكنه أتى بما هو أذعن لتسليمهم وتصديقهم لما فيه من الملاطفة في النصح بكلام منصف غير مشتط مشدّد أراهم إنه لم يعطه حقه ولم يتعصب له ويحامي عنه حتى لا ينفروا عنه ولذا قدم قوله كاذباً ثم ختم بقوله إنّ الله لا يهدي الخ يعني أنه نبيّ على الهدى ولو لم يكن كذلك ما آتاه الله النبوّة وعضده، وفيه من خداع الخصم واستدراجه ما لا يخفى انتهى. قوله: (لأن خسرانهم لا غاية له الخ) حمله الطيبي على أنه غاية للخسران على حد قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [سورة ص، الآية: 78] أي إنك مذموم مدعوّ عليك باللعنة إلى يوم الدين فإذا جاء ذلك اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه أي خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع من المحن والبلاء، فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين، وفي الكشف ردّاً عليه لم يجعل من باب وانّ عليك لعنتي لأنّ الخسران الأشذ بعد قولهم ذلك حين استقرارهم في دار العذاب فلا وجه لجعله غاية

الصفحة 46