كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

فقال بأن وسوس لهم، وإذا لم يذكر فاعله يقدر في كل مكان ما يليق به، والذي تسكب فيه العبرات تحقيق تلك المقامات. قال الراغب في مفرداته زينه إذا أظهر حسنه إمّا بالفعل أو بالقول وقد نسب الله تعالى تزيين الأشياء في مواضع إلى نفسه وفي مواضع إلى الشيطان وفي مواضع ذكره غير مسمى فاعله وتزيين الله الأشياء قد يكون بإبداعها مزينة وايجادها كذلك وتزيين غيره للشيء تزويقه بفعلهم أو بقولهم وهو أن يمدحوه، ويذكروه بما يعرف منه انتهى. وقال صاحب الانتصاف في سورة آل عمران التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إلى الله تعالى حقيقة لأنه لا خالق كل شيء من جوهر ومن عرض قائم به كالحب وغيره محمود في الشرع المتصف به أولاً، ويطلق التزيين ويراد به الحض على تعاطي الشهوات والأمر به، وهو بهذا الاعتبار لا يضاف إلى الله تعالى منه إلا الحض على بعض الشهوات المحضوض عليها شرعاً كالنكاح الموافق للسنة وما يجري مجراه وأمّا الشهوات المحظورة فتزيينها بهذا المعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها انتهى. إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المصنف رحمه الله قال في تفسير قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [سورة البقرة، الآية: 212] حسنها في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها والمزين على الحقيقة هو الله إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ويدل عليه قراءة زين على البناء للفاعل وكل من الشيطان والقوّة الحيوانية، وما خلق الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض يعني أنه إذا كان بمعنى الإيجاد أسند إلى الله حقيقة، وإلى غيره مجازا كما مرّ تحقيقه رواية ودراية، فما قيل عليه من أنّ التزيين هو التحسين المدرك بالحس دون المدرك بالعقل ولهذا جاء في أوصاف الدنيا وأوصاف الآخرة والمزين في الحقيقة هو الشيطان فإنه حسن الدنيا في أعينهم وحببها إليهم وقراءة زين على البناء للفاعل على الإسناد المجازيّ فإنه تعالى أمهل المزين فجعل إمهاله تزييناً أو زينها حتى استحسنوها وأحبوها ومن قال المزين الخ أخطأ في المدعي وما أصاب في الدليل أمّا الأوّل فلأنّ التزيين صفة تقوم بالشيطان والفاعل الحقيقي لصفة ما تقوم به تلك الصفة وليت شعري ما يقول هذا القائل في الكفر والضلال، وأما الثاني فلأنّ مبناه عدم الفرق بين الفاعل النحوي الذي كلامنا فيه والفاعل الكلامي الذي هو بمعزل عن هذا المقام (قلت)
المخطىء مخطئ من وجوه أحدها أنّ قوله المدرك بالحس ليس بصواب لأن تزيين الأعمال ليس مما يدرك بالحس فلا وجه لتخصيصه به، الثاني أنّ قوله والمزين في الحقيقة هو الشيطان إن أراد بالتزيين جعله مشتهى بالطبع وخلق ذلك فيه فباطل وان أراد الوسوسة ونحوها فالقاضي لا ينكره، ألا تراه قال في قوله تعالى: {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} [سورة الفتح، الآية: 12] الفاعل هو الله أو الشيطان، وكذلك قوله التزيين صفة تقوم بالشيطان فإنه يقال له أيّ معانيه أردت الثالث أنّ ما ذكره من عدم الفرق من بعض الظن وكيف يخفى على مثله وهو مقرر في الأصلين وإنما قصد الردّ على الزمخشري حيث فسره بما زعمه هذا القائل بناء على مذهبه في خلق العباد أفعالهم لا كما توهمه فقد فرّ من المطر ووقف تحت الميزاب، والحمد لله ملهم الصواب. قوله: (فلما نسوا ما ذكروا الخ (قيل هذه الآية الكريمة تؤيد مذهب من ذهب إلى أن لما ظرف بمعنى حين وليس فيه معنى الشرط إذ لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير،

الصفحة 60