كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 4)

ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته وأمّا غلى قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَات} [سورة الأنعام، الآية: 73] على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه انتهى، وهذا من غوامض هذا الكتاب لأنّ هنا احتمالات أن يكون كفروا من الكفر أو الكفران، ويعدلون من العدل بمعنى التسوية أو العدول بمعنى الانصراف وبربهم إمّا متعلق بكفروا أو بيعدلون على كل تقدير فهذه الجملة إمّ معطوفة على جملة الحمد دلّه أو على الصلة وقد جوّز بعض هذه الاحتمالات تصريحا ونفى غيرها تلويحاً لأنه جعله على عطفه على جملة الحمد من العدول والجار متعلق بكفروا وكفروا من الكفر لا الكفران وعلى عطفه على الصلة فيعدلون من العدل، والجارّ متعلق به مقدم من تأخير إمّا لتعظيم اسمه الجليل أو لرعاية الفاصلة، وكفروا مسكوت عن تفسيره فيه إشارة إلى احتماله للوجهين، والذي اقتضى ذلك أن الأرجح الأبلغ العدول عنه إلى غيره إن لم يكن خطأ عند البلغاء فهو أخوه، وبيان ذلك أنه يصير المعنى على الوجهين هكذا الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الجسام على الخاص، والعام فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه، ولا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده ووليّ نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإنّ المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره، وهذا على الوجه الأوّل، وعلى الثاني معناه المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة، أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره ممن لا يقدر عليها، وهم في قبضة تصرفه بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصوّر لجهلهم بحقه وما يليق بعظمته إذ العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوي بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما ولما كان العدول في الأوّل مستلزما لكفران نعمه رتبه عليه وجعله تفسيرا له، وليس إشارة إلى أن كفروا من الكفران وبربهم بتقدير مضاف أي بنعم ربهم كما قيل، وأمّا عطفه على الصلة المسوقة لذكر المحمود عليه، وهذا ليس كذا! كما أورده في الانتصاف فرذ بأنه إشارة إلى مزيد كرمه وواسع حلمه حيث أنعم على المطيع والعاصي فكأنه قيل ما أكرمه وأحلمه كما قيل:
إلهي لك الحمدالذي أنت أهله على نعم ماكنت قط لها أهلا
أزيدك تقصيراً تزدني تفضلاً كأني بالتقصير أستوجب الفضلا
كما سيأتي تحقيقه فما قيل إنه إشعار بأنّ الباء في الأوّل صلة كفروا ويعدلون من العدول، وفي الثاني يعدلون من العدل بمعنى التسوية وتقديم الصلة للاهتمام وتحقيق الاستبعاد وهذا تخصيص من غير مخصص لتأني التقديرين على كل من الوجهين، ووضع المظهر موضحع الضمير لبيان موقع الاستبعاد ولفظ الكتاب يوهم أنّ القرآن، ثم الذين كفروا به يعدلون وليس
كذلك لا وجه له لما عرفت من وجه التخصيص وظهور المخصص وأمّا قوله به فليس غلطا في التلاوة كما توهم، وإنما هو تنبيه على أنّ الموضع موضع الإضمار وايضاج أن كفروا ليس من الكفران، ثم قال وفذا العطف على الصلة ليس على قصد أنه صلة برأسه ليتوجه الاعتراض بأنه لا معنى لقوله الحمد لله الذي كان منه تلك النعم العظام، ثم من الكفرة الكفران وإنما لم يحمل، ثم على التراخي مع استقامته لكون الاستبعاد أوفق بالمقام (وأورد عليه أبحاث (الأوّل إنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ما له ذلك، ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محموداً عليه، والثاني أنّ مبني كلامه على أن المعتبر في هذا الوجه كون المذكور في حيز الصلة نعما والواقع منهم كفران، وهو مخالف للكتابين من وجهين أحدهما كون الخلق نعمة، وثانيهما كون يعدلون من العدول لا من العدل بمعنى التسوية، والجواب أما عن الأوّل فلما مرّ من أنه إذا أنعم عليه مع ذلك اقتضى علو شأنه وعموم إحسانه للمستحق وغيره وهو تعظيم منبئ عن كمال استحقاقه، ولذا قال بعض الفضلاء إنه حمد على كمال جوده حيث ينعم بمثل هذه النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به، وقد يقال وقوعه موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله الذي جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن المحمود عليه يجب أن يكون جميلا اختياريأ وما ذكر ليس كذلك

الصفحة 8