كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 5)

من المجاز الشائع فكان على المصنف رحمه الله تعالى أن لا يهمله، وأمّا الاعتراض عليه بأنه لولاه لم يظهر كونه ملائما للمستعار له لأنّ حدوث الاستعارة في هدّا يستدعي أن يكون لباس الجوع قرينة الاستعارة لعدم ما يصلح قرينة لها غيره فكيف يتأتى التجريد فمدفوع بأنه مبنيّ على أنّ التجريد
لا يكون قرينة مع أنه حينئذ يجعل القرينة إيقاعه على اللباس واللباس استعير لما غئيه من أثر الجوع والخوف، وهو ضررهما والغاشي هو الضرر لا الجوع، والخوف والا كان لباس الجوع كلجين الماء، وحينئذ تبين وجه إيقاع الإذاقة على اللباس إذ المعنى فأذاقهم ما غشيهم من ضرر الجوع والخوف، وظهر وجه إيثار التجريد على الترشيح لأنّ الإذاقة تفيد ما لا تفيده الكسوة من التأثير والإدراك وأوثر اللباس على الطعم للدلالة على الشمول والإذاقة على الكسوة للدلالة على التاثير والتأثر الموجب لقوة الإدراك، وهذا أولى مما في المفتاح من حمل اللباس على رثاثة الهيئة، وتغير اللون اللازمين للجوع، والخوف إذ لا يحسن موقع الإذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعا يعني أنه حينئذ اسنعارة محسوس لمثله فتفوت المبالغة التي اختير لأجلها الإذاقة إيهاما للعلة، وقال المحقق في شرح التلخيص الذي يلوج من كلام القوم إنّ في هذه الآية استعارتين إحداهما تصريحية، والأخرى مكنية فإنه شبه ما غشي الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه، ومن حيث الكراهية بالطعم المرّ البشع فيكون استعارة مصرّحة نظرا إلى الأوّل ومكنية نظراً إلى الثاني، وتكون الإذاقة تخييلاً، وتحقيق ذلك أنّ الاستعارة بالكناية إن كانت تشبيها مضمراً في النفس فلا مانع من كون المشبه في التشبيه مذكوراً مجازاً، وان كانت المشبه به المرموز إليه المستعار للمشبه فلا مانع أيضاً في ذلك من ذكر المشبه مجازاً وان كانت المشبه المستعار للمشبه به كما هو مذهب السكاكيّ فصحته تدور على صحة الاستعارة من المستعار فإن صحت صح والا فلا ولذا قال المدقق في الكشف أنّ الحمل على التخييل ضعيف لا يلائم بلاغة التنزيل فكونه منزع القوم هنا لا يخلو من التأمل كيف، وقد ذهب شيخنا الصناعة إلى خلافه، وقوله من الجوع، والخوف من هنا ابتدائية أو سببية أي ما غشيهم ناشئ من ذلك أو حاصل بسببه لا بيانية والا كان لباس الجوع تشبيها كلجين الماء كما مر، وقد جوّزه شرّأح المفتاح في النظم، واعلم أنّ السكاكيّ جعل هذه الاستعارة من الاستعارات المحتملة للتحقيق والتخييل فقال الذي يظهر من لفظ اللباس عند الأصحاب بتأملهم فيه هو الحمل على التخييل بأنه يشبه الجوع في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه الموضوع لما هو متحقق، ويحتمل عندي أن يحمل على التحقيق، وذلك بأن يستعار لما يحيط بالإنسان عند جوعه من تغير لونه، ورثاثة هيئته فيكون استعارة المحسوس للمحسوس، واعترض بأنّ الحمل على التخييل لا يلائم بلاغة القرآن لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن يخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس، وهذا الاعتراض! أورده الشريف في شرح المفتاح، وتبعه الفاضل المحشي ظانا أنه وارد غير مندفع، ولا يخفى أن السكاكي ترى أن التخييلة مستعملة في أمر وهمي توهمه المتكلم شبيها بمعناه الحقيقي على ما حقق في محله فاللباس إذا كان تخييلاً يجوز أن يكون المراد به أمراً مشتملاً على الجوع اشتمال اللباس كالقحط، ومشتملاً على الخوف كإحاطة العدوّ، ونحوه فلا
وجه لقوله صورة اللباس مما لا مدخل له في التأثير، وما ادّعاه من أنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتأثير لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية ألا تراك لو قلت إنّ مسافة القصر القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر أثبت له المسافة تخييلاً وما بعده ترشيحاً كانت استعارة حسنة، وليست قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه، ولو تتبعت كلام البلغاء وجدت مثله يفوت العد، ويخرق سياج الحد مع أنه لو سلم ورد على ما اختاره فمانّ الإذاقة لا تناسب اللباس ظاهراً فتأمل.
قوله: (كقول ك! ير:
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال)
هذا البيت من شواهد العربية، وهو من قصيدة لكثير عزة مدح بها عمر بن عبد العزيز
رضي الله تعالى

الصفحة 374