كتاب حاشيه الشهاب علي تفسير البيضاوي =عنايه القاضي وكفاية الراضي (اسم الجزء: 6)

للذل جناحاً كما جعل الخ (يعني أن فيه استعارة مكنية وتخييلية كما في بيت لبيد المذكور وهو من معلقته المشهورة فشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيهاً مضمراً وأثبت له الجناج تخييلا والخفض ترشيحاً لأن الطائر إذا أراد الطيران والعلوّ نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما وأيضاً هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله، وقيل: المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام. قوله: (وغداة ريح البيت (غداة مجرورة على إضمار رب والغدة أول النهار خصها لشدة بردها، وقرة بفتح القاف وقيل إنها مكسورة البرد الشديد وهو معطوف على ريح أو غداة، وقوله كشفت بصيغة المتكلم أي أزلت ضررها بكن الضيوف وإطعامهم وإيقاد النار لهم، ومن زعم أنه روي مجهولاً مع تاء التأنيث فقد أخطأ لأنه مختل الوزن ولا رواية فيه وأصبحت ناقصة واسمها ضمير مستتر للغداة أو الريح أو القرة وبيد الشمال زمامها من الخبر والمبتدأ خبرها كذا في شرح المعلقات، والمعنى أن تلك الغداة أو الريح الباردة أو القرة حصلت في ذلك الوقت وأتت بسبب هبوب الشمال وهي ريح معروفة بالبرودة فكأنها قائدة لها كما تقاد الإبل بأزمتها وهذا محل الشاهد ولا تكلف فيه كما توهم أن اسم أصبحت زمامها وأنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه والجارّ والمجرور خبرها، وأوهن منه ما قيل إن أصبحت تامّة بمعنى دخلت في وقت الصباج وأنها مسندة لضمير القزة وزمامها فاعل الظرف وجملته حالية وقوله للشمال بفتح الشين وفيه لغات أخر ففيه استعارتان مكنيتان بتشبيه
الشمال برجل قائد والقرة بناقة منقادة وتخييليتان في الزمام واليد وقوله: وأمره بصيغة الفعل معطوف على جعل ومبالغة مفعول له أو اسم مرفوع خبره مبالغة ووجه المبالغة ما فيه من الترشيح لأنه أبلغ من التجريد لا الإيجاب لأنه يفهم من تواضع وتذلل أيضا. قوله: (أو أراد جناحه (ففيه استعارة تصريحية تحقيقية مرشحة أو تمثيلية ويحتمل المكنية أيضاً على بعد، ووقع في بعض النسخ بالواو بدل أو وهو من سهو الناسخ، والجناح الجانب كما يقال: جناحا العسكر وخفضه مجاز كما يقال: لين الجانب ومنخفض الجانب، وقوله: للبيان لأنه صفة مبينة لأن المراد من خفض الجناج التذلل والمبالغة لأنه وصف بالمصدر كما مرّ تحقيقه والكلام عليه فكأنه جعل الجناج بمنزلة عين الذل وأما أنه يفيد أنه خلق منه كما قيل فلا وجه له، وتحقيقه في الكشف أن فيه وجهين وجناح الذل في الوجه الأوّد بل خفض الجناج تمثيل في التواضمع كما أشار إليه في سورة الشعراء وجاز أن يكون استعارة في المفرد، وهو الجناج ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلاً كما مرّ في قوله واعتصموا بحبل الله ولما كان الأوّل أبلغ وأظهر اكتفى به في الشعراء، وفي الوجه الثاني استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناج للذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع، ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا، وما عسى أن يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناج أبلغ في تقوية الذل من الأمر بخفضه لأنّ كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناج المخفوض للذل بدل على التواضع وأمّا جعل الجناج وحده فليس بشيء ولهذا جعل تكميلا والأوّل أبلغ وأوفق بنظره في القرآن فافهم فإنه من بدائعه والذل بالكسر في الدوالث ومعناه سهولة الانقياد وبالضم في الإنسان ضد العز والنعت منه ذليل ومن الأوّل ذلول. قوله: (من فرط رحمتك الخ (قال في الكشف: إق هذا إشارة إلى أنّ من ابتدائية على سبيل التعليل ولا تحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناج الذل ليس من الرحمة أبداً بل خفض جناح الذل جائز أن يقال إنه رحمة وهذا بين اهـ. يعني أنه لو كان بيانا لكان على سبيل التجريد وهو من أقسام التشبيه وهم قد صرحوا بأنه استعارة، ثم إنه بعد التنزل لا مجال له هنا فتدبر، وفرط الرحمة زيادتها والمبالغة فيها وهو مأخوذ من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا عن رحمة تامّة لا من كون التعريف للاستغراق كما قيل. قوله: الافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما

الصفحة 23