كتاب تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي (اسم الجزء: 1)

بَلْ أَخَذَ الْبُلْقِينِيُّ مِنْ إيثَارِ الْقُرْآنِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] بِالِابْتِدَاءِ بِهِ أَنَّهُ أَبْلَغُ صِيَغِ الْحَمْدِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا تَأَسِّيًا بِحَدِيثِ «إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ» وَلِيَجْمَعَ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى دَوَامِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَعَلَى تَجَدُّدِهِ وَحُدُوثِهِ وَهُوَ الثَّانِي (أَبْلَغَ حَمْدٍ) أَيْ أَنْهَاهُ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ لَا التَّفْصِيلُ لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنْهُ حَتَّى الرُّسُلِ حَتَّى أَكْمَلَهُمْ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ قَالَ «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك» (وَأَكْمَلَهُ) أَيْ أَتَمَّهُ وَرُدَّ بِأَنَّهُ إطْنَابٌ فَقَطْ كَاَلَّذِي بَعْدَهُ وَبِأَنَّ التَّمَامَ غَيْرُ الْكَمَالِ كَمَا يُومِئُ إلَيْهِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فَالْإِتْمَامُ لِإِزَالَةِ نَقْصِ الْأَصْلِ وَالْإِكْمَالُ لِإِزَالَةِ نَقْصِ الْعَوَارِضِ مَعَ تَمَامِ الْأَصْلِ.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] لِأَنَّ التَّمَامَ فِي الْعَدَدِ قَدْ عُلِمَ وَإِنَّمَا بَقِيَ احْتِمَالُ نَقْصِ بَعْضِ صِفَاتِهِ وَيُرَدُّ بِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْحِسِّيَّةِ لَا الِاعْتِبَارِيَّةِ كَمَاهِيَّةِ الْحَمْدِ وَبِأَنَّ الْإِكْمَالَ فِي الْآيَةِ لِلدِّينِ وَالْإِتْمَامُ لِلنِّعْمَةِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا ذَلِكَ الْإِكْمَالُ وَالنَّصْرُ الْعَامُّ عَلَى كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُعَانِدٍ فَلَمْ يَتَعَاوَرَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَاتَّجَهَ أَنَّهُمَا فِيهِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ حَمْدٌ بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ بِرِعَايَةِ الْأَبْلَغِيَّةِ وَذَاكَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا وَهِيَ الْمَالِكِيَّةُ أَيْ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ وَإِنْ لَمْ تُرَاعَ الْأَبْلَغِيَّةُ بِأَنْ يُرَادَ الثَّنَاءُ بِبَعْضِ الصِّفَاتِ فَذَاكَ الْبَعْضُ أَعَمُّ مِنْ هَذِهِ الْوَاحِدَةِ لِصِدْقِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا الْكَثِيرِ فَالثَّنَاءُ بِهَا أَبْلَغُ فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا نَعَمْ الثَّنَاءُ بِالْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ تَفْصِيلُهُ أَيْ تَعْيِينُهُ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ هَذَا. اهـ.
وَزَادَ الثَّانِي فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ أَبْلَغَ مَعَ أَنَّ الْأَوَّلَ اُفْتُتِحَ بِهِ الْكِتَابُ أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْدَ فِيهِ لِمَقَامِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعْيِينُ لَهُ أَوْلَى اهـ.
(قَوْلُهُ بَلْ أَخَذَ الْبُلْقِينِيُّ إلَخْ) مَرْجُوًّا بِهِ عَنْ الْمُغْنِي آنِفًا (قَوْلُهُ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا) يَعْنِي جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَ الْحَمْدِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْحَمْدِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي فَقَوْلُهُ نَاسِيًا إلَخْ عِلَّةٌ لِكُلٍّ مِنْ الدَّعْوَيَيْنِ وَلِذَا قَدَّمَهُ (قَوْلُهُ وَلِيَجْمَعَ إلَخْ) عِلَّةٌ لِلْأُولَى فَقَطْ (قَوْلُهُ وَحُدُوثُهُ) مِنْ عَطْفِ اللَّازِمِ وَلَوْ عُكِسَ الْعَطْفُ كَانَ أَوْلَى (قَوْلُهُ الْمَتْنُ أَبْلَغُ حَمْدٍ) يَنْبَغِي أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ، وَإِلَّا فَإِنْ أَرَادَ أَبْلَغَ الْحَمْدِ مُطْلَقًا فَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ إذْ حَمْدُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ خُصُوصًا حَمْدُ سَيِّدِهِمْ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ مِنْ إجْمَالَاتِ الْحَمْدِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ أَرَادَ حَمْدًا مَا أَبْلَغَ مِنْ حَمْدٍ مَا فَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فَتَأَمَّلْهُ سم.
(قَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ إلَخْ) جَوَابُ سُؤَالِ عِبَارَةِ الْمُغْنِي وَالنِّهَايَةِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ عُمُومُ الْحَمْدِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْمَحْمُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ النِّعَمُ لَا يُتَصَوَّرُ حَصْرُهَا كَمَا مَرَّ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُنْسَبَ عُمُومُ الْمَحَامِدِ إلَيْهِ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ الْإِجْمَالِ بِأَنْ يَعْتَرِفَ مَثَلًا بِاشْتِمَالِهِ عَلَى جَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْجَلَّالِيَّةِ وَالْجَمَالِيَّةِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ حَدُّ الْحَمْدِ الْمَذْكُورِ اهـ قَالَ الرَّشِيدِيُّ وَمَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ ادِّعَاءِ إرَادَةِ الْمُصَنِّفِ الْمُبَالَغَةَ؛ لِأَنَّ حَمْدَهُ وَلَوْ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ دُونَ حَمْدِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَوْ إجْمَالِيًّا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ قَاسِمٍ اهـ.
(قَوْلُهُ وَرُدَّ) أَيْ تَفْسِيرُ الْكَمَالِ بِالتَّمَامِ سم (قَوْلُهُ بِأَنَّهُ إطْنَابٌ فَقَطْ) يَعْنِي أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَأَكْمَلُهُ مُجَرَّدُ إطْنَابٍ فَالْمُرَادُ بِهِ عَيْنُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ أَبْلَغُ حَمْدٍ وَتَفْسِيرُ الْكَمَال بِالتَّمَامِ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ وَعَدَمَ الْإِطْنَابِ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ كَاَلَّذِي بَعْدَهُ أَيْ قَوْلِهِ وَأَزْكَاهُ وَأَشْمَلُهُ وَقَالَ الْكُرْدِيُّ قَوْلُهُ وَرُدَّ بِأَنَّهُ إطْنَابٌ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَنَحْوِهَا شَائِعٌ فِي الْخُطَبِ اهـ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى ضِدِّ مَا قُلْته وَيَرُدُّهُ قَوْلُ الشَّارِحِ وَبِأَنَّ التَّمَامَ إلَخْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْمَرَامِ.
(قَوْلُهُ وَمِنْ ثَمَّ) أَيْ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ (قَوْلُهُ قَدْ عُلِمَ) أَيْ مِنْ لَفْظَةِ عَشْرَةٍ (قَوْلُهُ وَيُرَدُّ) أَيْ الرَّدُّ الثَّانِي (قَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا) أَيْ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ (قَوْلُهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْحِسِّيَّةِ إلَخْ) قَالَ سم لَك مَنْعُ هَذَا الْحَصْرِ، ثُمَّ أَطَالَ فِي رَدِّ كَلَامِ الشَّارِحِ وَجَعَلَهُ مَاهِيَّةَ الْحَمْدِ اعْتِبَارِيَّةً رَاجِعْهُ (قَوْلُهُ وَمُعَانِدٍ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لَمِنَّا وَكُرْدِيٌّ (قَوْلُهُ فَلَمْ يُتَعَاوَرَا) أَيْ لَمْ يُتَوَارَدَا الْإِكْمَالَ وَالْإِتْمَامَ فِي الْآيَةِ قَالَ سم هَذَا قَدْ لَا يَمْنَعُ مَا ذُكِرَ اهـ.
وَأَقُولُ إنَّ مُرَادَ الشَّارِحِ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ رَدُّ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ لِمَا ذُكِرَ لَا مَنْعُهُ فَلَا إشْكَالَ (قَوْلُهُ فِيهِ) أَيْ فِي
ـــــــــــــــــــــــــــــSفِي كِتَابِنَا الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ تَأْيِيدُهُ وَرَدُّ خِلَافِهِ وَمَا اعْتَرَضُوا بِهِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَمْتَرِي فِيهِ الْعَاقِلُ الْفَاضِلُ بَلْ يَتَحَقَّقُ لَهُ مِنْهُ أَنَّ زَعْمَ أَبْلَغِيَّةِ الْأَوَّلِ مُنْشَؤُهُ عَدَمُ إمْعَانِ التَّأَمُّلِ وَعَدَمُ فَهْمِ مَعْنَى الْحَمَدَيْنِ عَلَى وَجْهِهِ فَرَاجِعْهُ (قَوْلُهُ أَبْلَغُ حَمْدٍ) يَنْبَغِي أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ وَإِلَّا فَإِنْ أَرَادَ أَبْلَغَ الْحَمْدِ مُطْلَقًا فَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ إذْ حَمْدُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَالُ خُصُوصًا حَمْدُ سَيِّدِهِمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِمْ أَبْلَغُ مِنْ حَمْدِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ مِنْ إجْمَالَاتِ الْحَمْدِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَإِنْ أَرَادَ حَمْدًا مَا فَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرًا مَرَّ فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَرُدَّ) أَيْ تَفْسِيرُ الْكَمَالِ بِالتَّمَامِ (قَوْلُهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْحِسِّيَّةِ) لَك مَنْعُ هَذَا الْحَصْرِ ثُمَّ إنْ أَرَادَ بِحِسِّيَّةِ الْمَاهِيَّاتِ حِسِّيَّتَهَا فِي نَفْسِهَا فَلَا شَيْءَ مِنْهَا بِحِسِّيٍّ؛ لِأَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ وَالْكُلِّيَّاتُ لَا تُحَسُّ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ حِسِّيَّتَهَا بِحِسِّيَّةِ أَفْرَادِهَا الْمَوْجُودَةِ هِيَ فِيهَا فِي الْخَارِجِ فَمَاهِيَّةُ الْحَمْدِ كَذَلِكَ لِأَنَّ لَهُ أَفْرَادًا فِي الْخَارِجِ فَإِنْ كَانَتْ أَقْوَالًا فَهِيَ مَحْسُوسَةٌ بِالسَّمْعِ أَوْ أَفْعَالًا فَبِالْبَصَرِ، وَأَيْضًا إنْ أَرَادَ بِالِاعْتِبَارِيِّ الِاصْطِلَاحِيَّ فَالِاصْطِلَاحِيُّ لَا يُنَافِي الْمَحْسُوسَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ مَالَهُ تَحَقُّقٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اعْتِبَارِ مُعْتَبَرٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَوْ مَا يَكُونُ تَحَقُّقُهُ بِاعْتِبَارِنَا وَلَوْ قَطَعَ النَّظَرَ عَنْ اعْتِبَارِنَا لَا يَكُونُ لَهُ تَحَقُّقٌ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْحَمْدِ كَذَلِكَ أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ.
وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِتَحَقُّقِهَا فِي الْخَارِجِ بِتَحَقُّقِ أَفْرَادِهَا (قَوْلُهُ فَلَمْ يُتَعَاوَرَا) هَذَا قَدْ لَا يَمْنَعُ مَا ذُكِرَ وَقَوْلُهُ فَاتَّجَهَ أَنَّهُمَا فِيهِ كَانَ

الصفحة 22