كتاب حسن السمت في الصمت

* وأخرج ابن أبي الدنيا عن شيخ من قريش , قال: " قيل لبعض العلماء إنك تطيل الصمت , قال: (إني رأيت لساني) (¬1) سبعًا (عقورًا) (¬2) " أخاف أن أخلي عنه " (¬3) ... (فيعقرني) (¬4) " (¬5).
* وأخرج ابن أبي الدنيا عن " وهب بن منبه " (¬6) , قال: " كان في بني (إسرائيل) (¬7) رجلان بلغت (عبادتهما) (¬8) أن مشيا على الماء , فبينما هما يمشيان في (البحر) (¬9) إذا هما برجل يمشي في الهواء , فقالا له: يا عبد الله بأي شيء أدركت هذه المنزلة؟
قال: بيسير من الدنيا فطمت نفسي " عن " (¬10) الشهوات وكففت لساني عما لا يعنيني ورغبت فيما دعاني إليه , ولزمت الصمت " فإن " (¬11) أقسمت على الله أبر قسمي , وإن سألته أعطاني " (¬12).
¬_________
(¬1) سقطت من المطبوعة , وما أثبتناه عن "م1" و"م2" , وهكذا ورد في كتاب الصمت لابن أبي الدنيا.
(¬2) في "م1" و"م2" عقورٌ.
(¬3) في م1 " إذا خلا عنه " والصواب ما أثبته.
(¬4) في المطبوعة " فيعقورني " , ولعله سهو.
(¬5) أخرجه ابن أبي الدنيا في " الصمت (366 , رقم: 703).
(¬6) في م 1 " وهب بن أبي منبه " والصواب ما أثبته.
(¬7) سقطت من "ب"
(¬8) في المطبوعة " بهما عبادتهما " , وما أثبتناه عن "م1"و "م2".
(¬9) في "ب" و"ل" و"ط" الحر.
(¬10) في م 1 " من " والصواب ما أثبته.
(¬11) في م 1 " فأنا " , والصواب ما أثبته.
(¬12) أخرجه ابن أبي الدنيا في " الصمت " (383 - 384 , رقم 754).
والله سبحانه وتعالى يبر قسم الضعفاء المتضعّفين , عن حارثة بن وهب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول: " ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره , ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر " أخرجه البخاري في صحيحه (4918) , ومسلم في صحيحه (2853).
والضعيف هو من نفسه ضعيفة لتواضعه وضعف حاله في الدنيا , والمستضعف المحتقر لخموله في الدنيا. قاله ابن حجر في " فتح الباري ".
قال ابن عثيمين - رحمه الله - في شرحه لرياض الصالحين: " إن الإنسان يكون ضعيفًا متضعفًا , أي لا يهتم بمنصبه أو جاهه , أو يسعى إلى علو المنازل في الدنيا , ولكنه ضعيف في نفسه متضعف , يميل إلى الخمول وإلى عدم الظهور - ليس قصد الشيخ رحمه الله الخمول الذي بمعنى الكسل وإنما الخمول عن الظهور بين براثن الشهرة وأضواء الانتشار بين الناس - لأنه يرى أن المهم أن يكون له جاه عند الله عز وجل , لا أن يكون شريفًا في قومه أو ذا عظمة فيهم , ولكن همه كله هو أن يكون عند الله سبحانه وتعالى ذا منزلة كبيرة عالية؛ ولذلك نجد أهل الآخرة لا يهتمون بما يفوتهم من الدنيا , إن جاءهم من الدنيا شيء قبلوه , وإن فاتهم شيء لم يهتموا به , لأنهم = =يرون أن ما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , وأن الأمور بيد الله , وأن دوام الحال من المحال , وأنه لا يمكن رفع ما وقع ولا دفع ما قدر إلا بأسباب الشرعية التي جعلها الله تعالى سببًا.
وقوله: " لو أقسم على الله لأبره " يعني لو حلف على شيء ليسر الله له أمره , حتى يحقق له ما حلف عليه , وهذا كثيرًا ما يقع؛ أن يحلف الإنسان على شيء ثقةً بالله عز وجل , ورجاء ثوابه فيبر الله قسمه , وأما الحالف على الله تعاليًا وتحجرًا لرحمته , فإن هذا يخذل والعياذ بالله " ا. هـ (" شرح رياض الصالحين " 2/ 136).
قلت: ومن الأسباب الشرعية التي تدفع البلاء " الدعاء " فعلى الإنسان أن يدعو ربه كثيرًا فإن لم يجب الله له مسألته التي سأله إياها قد يدفع الله عنه ضررًا قد كتبه عليه.
وضرب ابن عثيمين - رحمه الله - مثالاً لكل حالة من حالتي القسم على الله , الحالة الأولى: من يقسم على الله أملًا في رجائه وعفوه وقدرته متيقنًا من داخله أن الله قادر على كل شيء وأن إرادته بين الكاف والنون , إن أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون.
وضرب مثلًا للحالة الثانية: والتي فيها يقسم الناس على ربهم تعاليًا منهم , واستبعادًا لرحمة الله جل وعلا , معجبين بأنفسهم.
يقول العلامة ابن عثيمين: " وهاهنا مثلان: المثل الأول: أن الربيع بنت النضر وهي من الأنصار , كسرت ثنية جارية من الأنصار , فرفعوا الأمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأمر النبي أن تكسر ثنية الربيع؛ لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ... إلى قوله (والسن بالسن) فقال أخوها أنس بن النضر: والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع , فقال - صلى الله عليه وسلم -: " يا أنس كتاب الله القصاص " فقال: والله لا تكسر ثنية الربيع.
أقسم بهذا ليس ردًّا لحكم الله ورسوله , ولكنه يحاول بقدر ما يستطيع أن يتكلم مع أهلها حتى يعفوا ويأخذوا الدية أو يعفوا مجانًا دون دية , كأنه واثق من موافقتهم , لا ردًا لحكم الله ورسوله , فيسر الله سبحانه وتعالى فعفى أهل الجارية عن القصاص , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ". وهنا لا شك أن الحامل لأنس بن النضر هو قوة رجائه بالله عز وجل , وأن الله سييسر من الأسباب ما يمنع كسر ثنية أخته الربيع. بنفسه
أما المثل الثاني: الذي أقسم على الله تألِّيًا وتعارضًا وترفعًا , فإن الله يخيب آماله , ومثاله: ذلك الرجل الذي كان مطيعًا لله عز وجل عابدًا , يمر على رجل عاص , كلما مر عليه وجده على المعصية , فقال: والله لا يغفر الله لفلان , حمله على ذلك الإعجاب بنفسه , والتحجر بفضل الله ورحمته , واستبعاد رحمة الله عز وجل من عباده.
فقال الله تعالى: " من ذا الذي يتألّى علي ألّا أغفر لفلان , قد غفرت له , وأحبطت عملك " , فانظر الفرق بين هذا وهذا ". أ. هـ (شرح رياض الصالحين 2/ 137).
فاللهم اجعلنا من الضعفاء الذين يرجون لقاءك ويحبون رؤية وجهك الكريم , ويرضون من الدنيا بالقليل , ويعملون بما أوتوا من قوة لكسب رضاك , واجعلنا ممن يعملون بسنة نبيك ومن القائمين عليها.
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لم أقسم على الله لأبره ". رواه مسلم (2622).
والأشعث هو ذلك الرجل شديد الفقر الذي لا يجد ما يدهن به شعره من زيوت وغيره , ولا يجد حتى ما يرجل به شعره , وهو عديم القيمة بالنسبة إلى الناس حتى إنه " مدفوع بالأبواب " أي: إن ذهب إلى باب أحدهم فإنه يدفع الباب في وجهه لقلة قيمته عند أولئك الناس , ولكن قد تكون له قيمة كبيرة عند الله بماذا؟ بأعماله الصالحة وتقواه, وخوفه من الله في كل الأوقات وفي جميع الأماكن , وليس من الضروري أن كل أشعث أغبر يقسم على الله فيبر الله قسمه , إذ المقياس هنا هو قدر قربه من الله وقدر ثقته بربه , ومعاملته مع ربه كيف هي , فإن حسنت أبر الله قسمه وإلا ما أبر قسمه.

الصفحة 94