كتاب حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية
الإمام الذهبي رحمه الله (673 - 748هـ) (¬1): «الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع» اهـ.
وأنا لست هذا أو ذاك، أسأل الله الستر والمغفرة، وعفا الله عن الجميع.
ولكن، ولكي نحصر المسألة، فإن ما أثار حفيظتي هو أنه في ظل هذا الانجراف الإسلامي مع الإعصار العولمي العَلْماني الذي ضرب بشدته ديار أهل السنة - إلا ما رحم الله - تجد أنه لم يغفل عن هذا الخطر قطبا الصراع القديم؛ أعني الكيان الفاتيكاني القديم المتصدِّع، وأئمة الرفض أصحاب العمائم السوداء ..
فالفاتيكان الذي بدأ يستشعر انسحاب بساط السيادة من تحت قدميه، وانفلات شعبه الذي لم يعد يخشى منه حَجْبًا أو حرمانًا، وجد نفسه في مطلع النصف الثاني من القرن الميلادي المنصرم أمام ثلاثة مواقف ليختار منها، وهي كما عددها البابا پولس السادس Pope Paul VI (1897 - 1978 م) وقتها:
1 - موقف (الجيتو) الهارب إلى عالمه الخاص، والمنكفئ على ذاته.
2 - موقف التحريم، والاقتراب من العالم فقط بهدف إدانته.
3 - موقف الحوار (¬2).
ولا ريب أن المصلحة اقتضت ترجيح الثالث. ولكن هذا (الانقلاب الكوپرنيكي) - كما تصفه الكتابات الكاثوليكية - (¬3)
لم يكن من باب التسليم بالأمر الواقع حيادًا عن الرسالة
¬_________
(¬1) شمس الدين الذهبي: ميزان الاعتدال (5/ 60).
(¬2) انظر، ألكسي چورافسكي Alexei Jouravski: الإسلام والمسيحية، من التنافس والتصادم إلى آفاق الحوار والتفاهم، ص (140).
(¬3) نسبة إلى عالم الفلك والرياضيات الپروسي ميكواي كوپرنيك Mikolaj Kopernik (1473 - 1543 م)، صاحب نظرية (مركزية الشمس)، والتي نقض بها نظرية (مركزية الأرض) الكنسية التي تجعل الأرض مركز الكون والأجرام السماوية كافة تدور حولها. وكوپرنيكوس بنظريته تلك قد أحدث انقلابًا تاريخيًا زعزع سلطة الكنيسة التي كانت هي المصدر الوحيد للمعرفة. ولم ينج كوپرنيكوس من قبضة محاكم التفتيش إلا لأن المنية قد أدركته بعد طبع كتابه (عن دوران الأجرام السماوية De revolutionibus orbium coelestium) بقليل، والذي منعت الكنيسة تداوله وقالت أن ما فيه هو «وساوس شيطانية مغايرة لروح الإنجيل». ولذلك أشير إلى استخدامي لمصطلح (العَلْمانية) هكذا (بفتح العين وسكون اللام) نسبة إلى العَلْم، بمعنى العالَم، أي الخلق كله، لا (بكسر العين) نسبة إلى العِلْم التجريبي الذي انتصر على الكنيسة بعد صراع مرير سالت فيه الدماء وأزهقت فيه الأرواح، لأن الكنيسة كانت بالمرصاد لكل رأي علمي يعارض التفسير الديني للكتاب المقدس. وذلك لأن الإسلام في حل من هذا كله؛ فكما يقول جوستاف لوبون (1841 - 1931م): «والإسلام (من) أكثر الديانات ملاءمة لاكتشافات العلم، و (من) أعظمها تهذيبًا للنفوس وحملًا على العدل والإحسان والتسامح» [جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص (126). Gustave Le Bon: La Civilisation des Arabes] .. فالترويج لمصطلح (العِلْمانية) بالكسر ينطوي على قدر كبير من الخطأ والتلبيس: وذلك لأن الكلمة في جذورها الأوروپية لا علاقة لها بالعلم؛ فـ (العَلْمانية) تعرف في اللغة الإنجليزية بـ (Secularism)، وكما جاء في دائرة المعارف البريطانية: «Secular: Non Spiritual, having no concern with religious or spiritual matters»، أي: «غير روحي، غير متعلق بالأمور الدينية والروحية» [Encyclopadia Britannica: vol. 23, p(572)]. ولو كان المصطلح المراد به النسبة إلى (العِلْم Science) لكان يعرف في اللغة الإنجليزية بـ (Scientism). وعلى هذا كله، وكما يذكر الدكتور صلاح الصاوي: «فإن المعنى الصحيح لهذا التعبير هو الفصل بين الدين والدولة، بل بتعبير أدق الفصل بين الدين والحياة، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية، ونزع القداسة عن المقررات الدينية والتعامل معها كمواريث بشرية بحتة، وقصر الدين على جانب الشعائر التعبدية الفردية البحتة باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه» اهـ[د. صلاح الصاوي: أصول الإيمان، ص (191)].
الصفحة 15
704