كتاب حصان طروادة الغارة الفكرية على الديار السنية
فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه» اهـ (¬1).
ولكن اللافت للنظر أن هذه الآية تأتي تالية لقوله جل شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (¬2)، ومحل الشاهد هو أن الجنوح للسلم لم يتعارض مع إعداد المستطاع من قوة (رادعة) مانعة من تحرش العدو، وتأمل قوله - عز وجل - في الآية: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ}، فكيف يكون الإعداد لعدو مجهول حجمه وقوته إلا أن يكون في باب الردع؟! ومن لطيف ما حدثني به الفاضل، فاضل سليمان، أنه حينما تسلم وسامًا من وزارة الدفاع الأمريكي (الپنتاجون The Pentagon)، وجده منحوتًا عليه عبارة لاتينية شهيرة، وهي: Qui desiderat pacem praeparet bellum، ومعناها: أنه من أراد السلام فعليه الاستعداد للحرب Who wishes peace should prepare for war، وليس أبلغ من ذلك برهانًا!
ولكن قارن بين هذا التصور الغربي القرآني الأصل لمفهوم السلام وبين ما يريدونه لأمة الإسلام - من خلال دعوة الحوار المسيَّسة المائعة - من تقليم لأظافرها وتحطيم لذِرْوة سَنَامِها؛ أعني تشويه مفهوم الجهاد الإسلامي (¬3)، والذي ما شرع إلا لإقامة العدل وتحقيق السلام، فهو ليس إرهابًا كما يدعون، وإنما هو (جهاد على الإرهاب) الممارَس
¬_________
(¬1) فائدة: فإنه كذلك لاستيعاب المسألة، لا بد من استحضار المعنى الواسع لمصطلح (النسخ)؛ فكما يقول الإمام أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله (ت. 790هـ): «الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين؛ فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخًا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جيء به آخرًا؛ فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به» اهـ. [الشاطبي: الموافقات (3/ 344)].
(¬2) الأنفال: 60
(¬3) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأس الأمر الإسلام وعمودُه الصلاة وذِرْوةُ سَنَامِه الجهاد». [رواه الترمذي، كتاب الإيمان: 2616، وصححه الألباني].
الصفحة 42
704