كتاب إمتاع الأسماع (اسم الجزء: 8)

__________
[ () ] هكذا اقتصر القاضي ومن تبعه على حكاية هذين القولين، وحكى غيره قولا ثالثا وهو الترجيح، وقد سلكه فريقان:
أحدهما: سلك ترجيح الأخبار الدالة على نفى العدوي وتزييف الأخبار الدالة على عكس ذلك، مثل حديث الباب، فأعلوه بالشذوذ وبأن عائشة أنكرت ذلك، فأخرج الطبري عنها «أن امرأة سألتها عنه فقالت: ما قال ذلك، ولكنه قال: لا عدوى، وقال: فمن أعدى الأول؟ قالت: وكان لي مولى به هذا الداء، فكان يأكل في صحافي، ويشرب في أقداحى، وينام على فراشي» ، وبأن أبا هريرة تردد في هذا الحكم كما سيأتي بيانه، فيؤخذ الحكم من رواية غيره، وبأن الأخبار الواردة من رواية غيره في نفى العدوي كثيرة شهيرة، بخلاف الأخبار المرخصة في ذلك، ومثل حديث «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، وقد أخرجه ابن ماجة وسنده ضعيف، ومثل حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى رفعه: «كلم المجذوم وبينك وبينه قيد رمحين» ، أخرجه أبو نعيم في الطب، وسنده واه، ومثل ما أخرجه الطبري من طريق معمر عن الزهري: «أن عمر رضى اللَّه عنه قالك لمعيقيب: اجلس منى قيد رمح» ، ومن طريق خارجة بن زيد، كان عمر رضى اللَّه عنه يقول نحوه، وهما أثران منقطعان، وأما حديث الشريد الّذي أخرجه مسلم فليس صريحا في أن ذلك بسبب الجذام، والجواب عن ذلك: أن طريق الترجيح لا يصر إليها إلا مع تعذر الجمع، وهو ممكن، فهو أولى.
الفريق الثاني: سلكوا في الترجيح عكس ذلك المسلك، فردوا حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه، إما لشكه فيه، وإما لثبوت عكسه عنده، قالوا: والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر مخارج، وأكثر طرقا، فالمصير إليها أولى. قالوا:
وأما حديث جابر: «أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أخذ بيد مجذوم فوضعها في القصعة وقال: كل ثقة باللَّه وتوكلا عليه»
ففيه نظر، وقد أخرجه الترمذي، وبيّن الاختلاف فيه على راويه، ورجح وقفه على عمر رضى اللَّه عنه، وعلى تقدير ثبوته فليس فيه أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم أكل معه، وإنما فيه أنه وضع يده في القصعة، والجواب أن طريق الجمع أولى كما تقدم، وأيضا فحديث لا عدوى ثبت من غير طريق أبى هريرة فصح عن عائشة، وابن عمر، وسعد بن أبى وقاص، وجابر، وغيرهم، فلا معنى لكونه معلولا، واللَّه أعلم.
وفي طريق الجمع مسالك أخر:
أحدها: نفى العدوي جملة وحمل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذم، لأنه إذا رأى الصحيح البدن، السليم من الآفة، تعظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونحوه حديث: «لا تديموا النظر إلى المجذومين» ، فإنه محمول على هذا المعنى.
ثانيها: حمل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء «لا عدوى» كان المخاطب بذلك من قوى يقينه وصحّ توكله، بحيث يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوي، كما يستطيع أن يدفع التّطيّر الّذي يقع في نفس كل أحد، لكن القوى اليقين لا يتأثر به، وعلى هذا يحمل حديث جابر في أكل المجذوم من القصعة.

الصفحة 25