كتاب الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي

حَفَّ شَارِبَهُ , وَأَظُنُّهُ قَدِ اشْتَرَى كُتُبًا وَتَعَبَّأَ لِلْفُتْيَا , فَذَكَرُوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ , فَقَالَ: لَيْسُوا بِشَيْءٍ , وَلَيْسَ يَسْوُونَ شَيْئًا , فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي. قَالَ: أَنَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قُلْتُ: إِيشْ تَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ وَرَفَعْتَ يَدَيْكَ؟ فَسَكَتَ , فَقُلْتُ: فَإِيشْ تَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ إِذَا وَضَعْتَ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ؟ فَسَكَتَ , قُلْتُ: إِيشْ تَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ إِذَا سَجَدْتَ؟ فَسَكَتَ , قُلْتُ: مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ؟ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَا تُحْسِنُ تُصَلِّي؟ أَنْتَ إِنَّمَا قِيلَ لَكَ: تُصَلَّى الْغَدَاةُ رَكْعَتَيْنِ , وَالظُّهْرُ أَرْبَعًا , فَالْزَمْ ذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَذْكُرَ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ , فَلَسْتَ بِشَيْءٍ وَلَا تُحْسِنُ شَيْئًا " فَهَذَا الْمَذْكُورُ مَثَلُهُ فِي الْفُقَهَاءِ كَمَثَلِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مِمَّنِ انْتَسَبَ إِلَى الْحَدِيثِ وَلَمْ يَعْلَقْ بِهِ مِنْهُ غَيْرُ سَمَاعِهِ وَكُتُبِهِ , دُونَ نَظَرِهِ فِي أَنْوَاعِ عِلْمِهِ. وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ فِيهِ الْمُتَخَصِّصُونَ بِهِ فَهُمُ الْأَئِمَّةُ الْعُلَمَاءُ , وَالسَّادَةُ الْفُهَمَاءُ , أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْفَضِيلَةِ وَالْمَرْتَبَةِ الرَّفِيعَةِ , حَفِظُوا عَلَى الْأُمَّةِ أَحْكَامَ الرَّسُولِ , وَأَخْبَرُوا عَنْ أَنْبَاءِ التَّنْزِيلِ , وَأَثْبَتُوا نَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ , وَمَيَّزُوا مُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ , وَدَوَّنُوا أَقْوَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ وَأَفْعَالَهُ , وَضَبَطُوا عَلَى اخْتِلَافِ الْأُمُورِ أَحْوَالَهُ , فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ , وَقُعُودِهِ وَقِيَامِهِ , وَمَلْبَسِهِ وَمَرْكَبِهِ , وَمَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ , حَتَّى الْقُلَامَةِ مِنْ ظُفْرِهِ مَا كَانَ يَصْنَعُ بِهَا , وَالنُّخَاعَةِ مِنْ فِيهِ كَيْفَ كَانَ يَلْفِظُهَا , وَقَوْلِهِ عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ يُحْدِثُهُ , وَكَذَا كُلُّ مَوْقِفٍ يَشْهَدُهُ , تَعْظِيمًا لِقَدْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ , وَمَعْرِفَةً بِشَرَفِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ , وَعُزِيَ إِلَيْهِ , وَحَفِظُوا مَنَاقِبَ صَحَابَتِهِ , وَمَآثِرَ عَشِيرَتِهِ , وَجَاءُوا بِسِيَرِ الْأَنْبِيَاءِ , وَمَقَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ , وَاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ , وَلَوْلَا عِنَايَةُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ بِضَبْطِ السُّنَنِ وَجَمْعِهَا وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ مَعَادِنِهَا وَالنَّظَرِ فِي طُرُقِهَا , لَبَطَلَتِ الشَّرِيعَةُ , وَتَعَطَّلَتْ أَحْكَامُهَا , إِذْ كَانَتْ مَسْتَخْرَجَةً مِنَ الْآثَارِ الْمَحْفُوظَةِ , وَمُسْتَفَادَةً مِنَ السُّنَنِ الْمَنْقُولَةِ , فَمَنْ عَرَفَ لِلْإِسْلَامِ حَقَّهُ وَأَوْجَبَ لِلدِّينِ حُرْمَتَهُ , أَكْبَرَ أَنْ يَحْتَقِرَ مَنْ عَظَّمَ اللَّهُ

الصفحة 5