كتاب ابن حزم وموقفه من الإلهيات عرض ونقد

هذا والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى والمستعصم فيما بقى .. وكان السبب فيما ذكرته أنى كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقطورًا محضرًا على بين رقباء ورقائب، فلما ملكت نفسي وعقلت صحبت أبا علي الحسين بن علي الفاسى (¬١) في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدى (¬٢) شيخنا وأستاذي رضي الله عنه وكان أبو علي المذكور عاقلًا عاملًا عالمًا ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة وأحسبه كان حصورًا لأنه لم تكن له امرأة قط وما رأيت مثله جملة علمًا وعملًا ودينًا وورعًا فنفعني الله به كثيرًا وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي (¬٣).
كشف لنا أبو محمد سر هذه العفة والاستقامة في تلك الحياة الناعمة في ظل والده الذي أحاطه بالعناية التامة وجعل من مربياته رقيبات عليه فكان حريصا كل الحرص على تنشئته تنشئة قوية في تلك الرفاهية التامة. ثم لما ترعرع قاده تلك القيادة النفسية فوجهه إلى صحبة رجل مستقيم هو أبو الحسين الفاسي.
تلك هي نشأة أبي محمد بن حزم الأولى صافية نقية لا يشوبها كدر، ولكن ذلك العيش الهنىء وتلك السعادة التامة لم يستمرا لهذا
---------------
(¬١) ستأتي ترجمة مع شيوخ ابن حزم انظر ص ٥٢.
(¬٢) أبو القاسم هذا مصرى قدم الأندلس سنة ٣٩٤ هـ روى عن أبي علي بن السكن وأبي العلاء بن ماهان وغيرهما، وحدث عنه أبو عمرو بن الجذاء وقال كان رجلا أديبا شاعرا حلوا حافظا للحديث وأسماء الرجال والأخبار، وخرج من الأندلس وقت الفتنة إلى مصر وبها توفى سنة عشرة وأربعمائة. وكان قد ولد بها ليلة الجمعة مستهل شعبان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. انظر الصلة لابن بشكوال ج ١ ص ٣٣٧.
(¬٣) طوق الحمامة لابن حزم ص ٢٧٤، ٢٧٥.

الصفحة 37