عن أولئك البعداء إلى أهل القرى والمدن، فنظر إلى ما فيه أهل القرى من اطراح أمر الدين، والإضراب عن التفقه والعلم، (57/ أ) وما عليه أهل المدن من تطفيف المكاييل، ونقص الموازين، واطراح أمر الشرع في العقود والبياعات، وأكل الربا، والمرخص في النجاسات والاستخفاف بأمرها، والتظالم بين الخلطاء، والغل والغش إلى ألا يكاد يرضى منهم عن أحد إلا من انقطع إلى العلم؛ أو عزفت نفسه عن هذه الدنيا.
ثم إنه يسوءه فيهم ما يرى عليه أهل العلم من التنافس والذم، ذم بعضهم بعضًا، والطعن من كل منهم فيمن يخالفه، وتنافس أهل الانقطاع منهم أيضًا في أشياء تفصح عن مقاصدهم فيها، عزيز على المؤمن أن يراهم أو يجدهم عندها من كل حال يشمت بها إبليس، فيرى المؤمن أنه لولا أن الله عز وجل سبقت رحمته غضبه، وغلب عفوه عقوبته؛ لكان أن يخسف الأرض بمن عليها من بني آدم، ويضرمها بهم نارًا، غير جور منه سبحانه، ولا حيف، لكن لما سبقت رحمته غضبه في كتاب كتبه على نفسه، لما علم جل جلاله أن ذلك لا يكون منهم إذا خلقهم.
ثم إنه سبحانه وتعالى خلقهم على علمه بهم، فهو سبحانه وتعالى يرعى فيهم سوابق اختياره، ويلاحظ منهم مواضع آثاره، وأنهم على ما كان منهم؛ فإنهم بأقرانهم شهود خلقه لهم، وفعله فيهم، وأن منهم المخلصين له، والمجاهدين فيه، والمؤثرين سبحانه بأرواحهم، والمنفقين فيه حياتهم، فيكون أولئك حماة لجنسهم، وأمانًا لسائر بني أبيهم، ممن يرتضي الله عز وجل إن شاء الله تعالى.