كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح (اسم الجزء: 6)

على كره، إلا أنها على ما قاست منه في كل ذلك لم يشنه ذلك عندها، ولا أثر عظم أذاه في نفسها، بحيث يحملها ذلك على أن تشنأه أو تبغضه، بل كانت تتجرع أذاه محبة له، وتصبر على تجرمه وتعنته (115/ ب) مستلذة لطول صحبته، تود أن لو فدته بنفسها، فهذا هو الخوف بالغ، وإن كان قد جبل عليه طبعها، فإنه قد وصل إلى هذا المحسن إليه نفعه، فكان من جزاء الإحسان، أن يكون فاضلًا لها في المجازاة إذا أحسنت إليه في حال ضعفه، وكان جزاؤه لها في حال قوته، إلا إنها لما قصرت قدرته عن أن يفضل عليها في الجزاء، فقد كان ينبغي أن يجازيها بغاية الوسع الذي لا تنتهي قدرته إلى غيره، فإذا غفل عن هذا كله ونسي إحسانها القديم إليه، وأراد أن يكون من الكافرين بحاله لأول المحسنين بعد الله إليه، فليس يرجى من مثل هذا خير إذن، إلا أن يكون قد كان غافلًا ناسيًا مشدوهًا عن تفقدها؛ فإنه يتعين عليه أن يتدارك ذلك.
* فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما قال له الرجل من أحق الناس بصحابتي؟ قال: (أمك ثم أمك ثم أمك)، ثلاثًا يعني به - صلى الله عليه وسلم - فيما أرى أن لها الحق الأول؛ حيث كنت حملًا في حشاها، ولها الحق الثاني؛ حيث كنت رضيعًا في حجرها، ولها الحق الثالث؛ حيث كنت صغيرًا في كتفها.
فهذه حقوق ثلاثة، ثم قال له في الرابعة: (ثم أباك)، يعنيك إن أباك وضعك شهوة، وأنفق عليك من مال الله، الذي أوجب عليه إنفاقه، فإنه حق عظيم إلا أن الأم تفضله بما ذكرناه؛ فلهذا وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأمهات.
* وقوله بعد ذلك: (ثم أدناك، أدناك)، يعني - صلى الله عليه وسلم - أن برك وصلتك ينبغي أن ترتبها على نحو ما رتبها الله في الميراث، فإنه سبحانه لم يورث إلا الأدنى

الصفحة 450