كتاب الإفصاح عن معاني الصحاح (اسم الجزء: 6)

لأنه جمع بين أمرين عظيمين يعجز عنهما قدرة كل بشر، ويضيق بهما ذرع كل مخلوق، وهو أنه أشار إلى مهلك كسرى وقيصر، وهما ملكا الخافقين من المشرق والمغرب في قوة جنودهما، وتضاعف عساكرهما، ويوم قوله - صلى الله عليه وسلم - كسرى في عنفوان ملكه؛ وكذلك قيصر في أثر يزياد تطاوله؛ وقد امتد لكل منهما الملك عن أنباه واحدًا، وثبت في عنصره واسونح أمره، ونائل ملكه، واستحكم عقده، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمهلكهما جميعًا، ونزعهما من ملكهما مقهورين مغلوبين بأيدي أمته حتى قال: ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله.
*ثم المعنى الآخر قوله: وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن بعد مهلكهما لا يقوم لهما عمد، وأن نارهما لا تضيء بعد أن تخبو، وعامر حدهما لا ينهض بعد أن يكبو، فكان كما قال - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله هو الذي أطفأ نارهما فلم يشب، وصغر حدودهما، وأخل أمرهما فلم تستتب، فهو من دلائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القاطعة، وحججه الظاهرة البارعة، ومن كان ذا لب سليم وعقل مستقيم، فإنه لا يبقى عنده شك، ولا يخالطه ارتياب في أن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما استتب واستمر لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أظهره وشاده، وقواه وعضده، فلم يقم له ملك من ملوك الأرض، ولم يثبت بين يديه جبار من جبابرة الدنيا.
*ولقد جرى لي في هذا أنه لما كنت بالمخزن حضر عندي فيمن يحضر (98/أ) من كتاب معاملات المخزن رجل من أهل الذمة يعرف بفرح بن كمونة، فقال فيما قال: إنه كان له جد يعرف بغنايم بن كمونة، وكان كاتبا بالمخزن، وكان ابن عمه متعبدًا في يهدويته؛ حتى إنه مرض مرضة فلم

الصفحة 52