كتاب إتحاف ذوي الألباب

وَالآجَالُ الاخْتِرَامِيَّةُ: هِيَ الَّتِي تَحْصُلُ بِسَبَبٍ مِنَ الأَسْبَابِ الخَارِجِيَّةِ - كَالغَرَقِ وَالحَرْقِ وَلَسْعِ الحَشَرَاتِ -.
وَعَلَيْهِ: فَالعُمُرُ الطَّبِيعِيُّ: أَنْ يَمُوتَ الشَّخْصُ لَا بِعِلَّةٍ خَارِجِيَّةٍ (¬1).
هَذَا احْتِجَاجُهُمْ مِنَ الكِتَابِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَاحْتَجُّوا مِنْهَا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الخُلُقِ
¬__________
(¬1) وَهَذَا التَّقْسِيمُ للآجَالِ وَالأَعْمَارِ مِمَّا شَطَّ بِهِ الرَّازِيُّ عَنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ المَذْكُورَةِ، وَوَافَقَ بِقَوْلِهِ - هَذَا - رَأْيَ المُعْتَزِلَةِ؛ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ «البَحْرِ المُحِيطِ» (4/ 432) بِقَوْلِهِ - بَعْدَ أَنْ أَوْرَدَ كَلَامَ الرَّازِيِّ -: «وَهَذَا قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ نَقَلَهُ عَنْهُمْ وَقَالَ: هَذَا قَوْلُ حُكَمَاءِ الْإِسْلَامِ».
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَقْوَالَ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِ الآيَةِ، وَرَجَّحَ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الأَجَلَ الأَوَّلَ هُوَ: أَجَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا , وَالأَجَلَ الثَّانِيَ المُسَمَّى عِنْدَهُ: هُوَ أَجَلُ البَعْثِ، انْظُرْ «تَفْسِير الطَّبَرِيِّ» (9/ 150 - 154).
وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (14/ 489): «فَالْأَجَلُ الْأَوَّلُ هُوَ أَجَلُ كُلِّ عَبْدٍ؛ الَّذِي يَنْقَضِي بِهِ عُمْرُهُ، وَ (الْأَجَلُ المُسَمَّى عِنْدَهُ) هُوَ: أَجَلُ الْقِيَامَةِ الْعَامَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ: (مُسَمًّى عِنْدَهُ)؛ فَإِنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ كَمَا قَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ: (مُسَمًّى)؛ كَقَوْلِهِ: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}؛ إذْ لَمْ يُقَيَّدْ بِأَنَّهُ مُسَمًّى عِنْدَهُ؛ فَقَدْ يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ، وَأَمَّا أَجَلُ المَوْتِ فَهَذَا تَعْرِفُهُ المَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَكْتُبُونَ رِزْقَ الْعَبْدِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ؛ كَمَا قَالَ فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ -: «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ المَلَكُ، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُقَالُ: اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»، فَهَذَا الأَجَلُ الَّذِي هُوَ أَجَلُ المَوْتِ قَدْ يُعْلِمُهُ اللهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَمَّا أَجَلُ القِيَامَةِ (المُسَمَّى عِنْدَهُ) فَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ».

الصفحة 38