كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 2)

وَمِثَالُ الْمُسْتَنْكَرِ مِثْلُ حَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً، وَلَا سُكْنَى» فَقَدْ رَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حَالِهِمْ الْعَدَالَةُ، وَالْفِسْقُ بِأُمُورٍ عَارِضَةٍ فَيَجِبُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الظَّاهِرِ كَمَا يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْإِسْلَامِ وَأَمَّا حَدِيثُ مَعْقِلٍ فَقَدْ قَبِلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا يَقْبَلُ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِالْعَدَالَةِ فَثَبَتَ عَدَالَتُهُ فَيَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِ عَلَى أَنَّ مَعْقِلًا رَجُلٌ مَعْرُوفٌ عَدْلٌ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الثِّقَاتِ مِنْهُمْ الْبُخَارِيُّ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، وَإِنْ كَانَا يَشْتَرِطَانِ الْعَدَالَةَ حَقِيقَةً وَلَا يَكْتَفِيَانِ بِالْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ هُوَ زَمَانُ الصَّحَابَةِ كَانَ الْغَالِبُ الْعَدَالَةُ فِيهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ ثُمَّ لَخَصَّ الشَّيْخُ الْكَلَامَ وَبَيَّنَ حَاصِلَهُ فَقَالَ: فَصَارَ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ الْخَبَرِ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمَوْضُوعُ لِانْقِطَاعِ احْتِمَالِ كَوْنِهِ حُجَّةً بِالْكُلِّيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِلْمُ طُمَأْنِينَةٍ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُنْكَرُ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ حُجَّةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ حُجَّةٍ وَالْمُنْكَرُ عَلَى عَكْسِهِ.
وَالْمُرَادُ مِنْ الظَّنِّ فِي قَوْلِهِ وَالْمُسْتَنْكَرُ مِنْهُ أَيْ مِنْ الْخَبَرِ يُفِيدُ الظَّنَّ الْوَهْمُ فَإِنَّ الظَّنَّ مَا كَانَ جَانِبُ الثُّبُوتِ فِيهِ رَاجِحًا وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَالْوَهْمُ مَا كَانَ عَدَمُ الثُّبُوتِ فِيهِ رَاجِحًا وَالْمُسْتَنْكَرُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ أَيْ خَبَرُ الْوَاحِدِ الَّذِي هُوَ مَعْرُوفٌ بِالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الْمَعْرُوفِ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُسْتَتِرُ أَيْ خَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي هُوَ لَمْ يُقَابَلْ بِرَدٍّ، وَلَا قَبُولٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَهَذَا لَا يُوجِبُهُ، قَوْلُهُ (وَمِثَالُ الْمُسْتَنْكَرِ) كَذَا الْمَبْتُوتَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى عِنْدَنَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَهَا السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَبِهِ قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَا سُكْنَى إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ لِحَدِيثِ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَخْبَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَأُمِرَ بِنَفَقَةِ أَصْوُعٍ مِنْ شَعِيرٍ فَاسْتَقَلَّتْهَا وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نَحْوَ الْيَمَنِ فَانْطَلَقَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا عَمْرٍو طَلَّقَ فَاطِمَةَ ثَلَاثًا فَهَلْ لَهَا نَفَقَةٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ لَهَا نَفَقَةٌ، وَلَا سُكْنَى وَأَرْسَلَ إلَيْهَا أَنْ تَنْتَقِلَ إلَى أُمِّ شَرِيكٍ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَيْهَا أَنَّ أُمَّ شَرِيكٍ يَأْتِيهَا الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ فَانْتَقِلِي إلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّك إذَا وَضَعْت خِمَارَكِ لَمْ يَرَكِ» وَأَمَّا الْفَرِيقُ الثَّانِي فَيَقُولُونَ لَيْسَ فِي رِوَايَاتِ أَهْلِ الْحِجَازِ ذِكْرُ السُّكْنَى فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ وَالْمَذْكُورُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا نَفَقَةَ لَك إلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا إنَّمَا النَّفَقَةُ لِمَنْ يَمْلِكُ الزَّوْجُ رَجْعَتَهَا» فَأَوْجَبْنَا السُّكْنَى بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعُمُّ الْمَبْتُوتَةَ وَالْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَلَمْ يُوجِبْ النَّفَقَةَ بِالْحَدِيثِ وَبِمَفْهُومِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فَإِنَّهُ بِمَفْهُومِهِ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَائِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَمْلِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ صِلَةً لِلزَّوْجِيَّةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ

الصفحة 389