كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَحَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ وَالْقَائِدُ وَالسَّائِقُ وَالشَّاهِدُ إذَا رَجَعَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحِرْمَانُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ أَبَدًا كَالْقِصَاصِ. .

وَالْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ هِيَ الْكَفَّارَةُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ مُبْتَدَأَةً.
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْأَوْزَاعِيُّ إلَى أَنَّ الْحِرْمَانَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْخَاطِئِ إلَّا فِي الدِّيَةِ وَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعِنْدَ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ لَا يَحْرُمُ مِنْ الدِّيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ شُرِعَ عُقُوبَةً عَلَى قَصْدِهِ اسْتِعْجَالَ الْمِيرَاثِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُخْطِئِ فَإِنَّهُ قَصَدَ قَتْلَ الصَّيْدِ لَا قَتْلَ مُوَرِّثِهِ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّا لَمْ نُوَرِّثْهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَتَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ فَلَوْ وَرَّثْنَاهُ مِنْهَا، لَكُنَّا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِ لَهُ وَهُوَ فَاسِدٌ، لَكِنَّ الْجَوَابَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ وَالْقَتْلُ مِنْ الْخَاطِئِ مَعَ أَنَّ الْخَطَأَ عُذْرٌ شَرْعًا مَحْظُورٌ وَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ وَهِيَ سَتَّارَةٌ لِلذَّنْبِ فَمَا جَازَ مَعَ كَوْنِ الْخَطَأِ عُذْرًا أَنْ يُؤَاخَذَ بِالْكَفَّارَةِ جَازَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَقَدْ تَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِآثَارِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا رَمَى رَجُلًا بِحَجَرٍ فَأَصَابَ أُمَّهُ خَطَأً فَقَتَلَهَا فَغَرَّمَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدِّيَةَ وَنَفَاهُ مِنْ الْمِيرَاثِ.
وَقَالَ لِلْقَاتِلِ: إنَّمَا حَظُّك مِنْ مِيرَاثِهَا الْحَجْرُ وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ أَخَاهُ خَطَأً فَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مِيرَاثًا وَرُوِيَ أَنَّ عَرْفَجَةَ الْمُدْلِجِيَّ قَذَفَ ابْنَهُ بِالسَّيْفِ فَأَصَابَ رِجْلَيْهِ بِغَيْرِ قَصْدِهِ وَمَاتَ فَغَرَّمَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الدِّيَةَ مُغَلَّظَةً وَنَفَاهُ مِنْ مِيرَاثِهِ وَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ قَوْلُهُ (وَحَافِرُ الْبِئْرِ) يَعْنِي إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِمُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِطَرِيقِ التَّسْبِيبِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهَا مُوَرِّثُهُ فَهَلَكَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَمَاتَ بِهِ مُوَرِّثَةُ أَوْ أَخْرَجَ ظُلَّةً أَوْ جُنَاحًا فَسَقَطَ عَلَى مُوَرِّثِهِ فَقَتَلَهُ أَوْ قَادَ دَابَّةً فَوَطِئَتْ مُوَرِّثَهُ فَمَاتَ أَوْ شَهِدَ عَلَى مُوَرَّثِهِ بِقَتْلٍ فَقُتِلَ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ شَهَادَةٍ لَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَثْبُتُ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ كَالْقَتْلِ خَطَأً وَلِهَذَا وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقُلْنَا: الْحِرْمَانُ ثَبَتَ عُقُوبَةً عَلَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ الْمَحْظُورِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْقَتْلِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَتْلٍ بَلْ هُوَ مُبَاشَرَةُ شَرْطِ الْقَتْلِ أَوْ تَسْبِيبٌ لَهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إثْبَاتُ مَا شُرِعَ عُقُوبَةً فِي الْقَتْلِ فِيمَا دُونَهُ بِالْقِيَاسِ فَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَمْ تَجِبْ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ إنَّمَا هِيَ بَدَلُ الْمَحَلِّ وَتَلَفُ الْمَحَلِّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسْبِيبِ عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُهَا بِالتَّسْبِيبِ أَمَّا فِعْلُ الْمُسَبَّبِ فَلَيْسَ كَفِعْلِ الْمُبَاشِرِ فَلَا يُجَازَى بِمَا يُجَازَى بِهِ الْمُبَاشِرُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا يَثْبُتُ الْحِرْمَانُ فِي حَقِّهِمْ، ثُمَّ قِيلَ: حَدُّ الْمُبَاشَرَةِ أَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِهِ وَيَحْدُثَ مِنْهُ التَّلَفُ كَمَا لَوْ جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَمَاتَ وَحَدُّ التَّسْبِيبِ أَنْ يَتَّصِلَ أَثَرُ فِعْلِهِ بِغَيْرِهِ لَا حَقِيقَةُ فِعْلِهِ فَيَتْلَفُ بِهِ كَمَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّ الْمُتَّصِلَ بِالْوَاقِعِ أَثَرُ فِعْلِهِ وَهُوَ الْعُمْقُ فَإِنَّهُ تَلِفَ بِهِ لَا حَقِيقَةً فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ اتَّصَلَتْ بِالْمَكَانِ لَا بِالْوَاقِعِ فَلَا يَجِبُ أَيْ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَهُوَ الْحِرْمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ السَّبَبِ أَيْضًا كَالْبَاقِينَ إلَّا أَنَّ الشَّيْخَ لَمْ يَذْكُرْ صَاحِبَ السَّبَبِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ يُعْرَفُ مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِ الشَّرْطِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْحُكْمِ.

قَوْلُهُ (وَالْحُقُوقُ الدَّائِرَةُ) يَعْنِي بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ هِيَ الْكَفَّارَاتُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْأَدَاءِ يَعْنِي أَنَّهَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ عِبَادَةٌ كَالصَّوْمِ وَالْإِعْتَاقِ وَالصَّدَقَةِ فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَدَاءَهَا يَجِبُ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى وَيُؤْمَرُ مَنْ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ

الصفحة 149