كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا وَعِبَادَةُ أَدَاءً حَتَّى سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ عَلَى مِثَالِ الْحُدُودِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَذَلِكَ أَيْ جَعْلُهَا ضَمَانَ الْمُتْلِفِ غَلَطٌ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى سَبِيلِ الْجَبْرِ إذْ النَّقْصُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي حُقُوقِهِ مِنْ حَيْثُ يَسْتَدْعِي جَبْرًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ جَبْرٌ أَنْ يَقَعَ الْحَاجَةُ إلَى جَبْرِهِ، لَكِنَّ تَفْوِيتَ حَقِّهِ يُوجِبُ ضَمَانًا هُوَ جَزَاءٌ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ.
لِهَذَا تَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِ الْأَفْعَالِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ
بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْمَحَلِّ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ وَلِهَذَا وَجَبَتْ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ كَمَا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ أَيْ وَمِثْلُ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ سَائِرُ الْكَفَّارَاتِ فِي أَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ وَلِهَذَا أَيْ وَلِرُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهَا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِوُجُوبِ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِكَفَّارَةٍ صَارَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ مُؤَبَّدَةً لَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ وَهُوَ خِلَافُ مَشْرُوعِ الظِّهَارِ قَوْلُهُ (مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَجِهَةُ الْعِبَادَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ وَأَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ كُلُّهَا يَعْنِي جِهَةُ الْعِبَادَةِ فِي الْكَفَّارَاتِ رَاجِحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحَةٌ عَلَى جِهَةِ الْعِبَادَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي نَفْسِهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ صَالِحَةٌ لِلتَّكْفِيرِ بِهَا إذْ الْعِبَادَاتُ مَوْضُوعَةٌ لِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَهِيَ بِآثَرِهَا صَالِحَةٌ لِلزَّجْرِ فَإِنَّ مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْإِفْطَارِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَدَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ، ثُمَّ تَأَمَّلَ أَنَّهُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَزِمَتْهُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الْعَظِيمَةُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا يَرْتَهِنُ بِالنَّارِ إلَّا أَنْ يُتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْهُ أَشَدَّ الِانْزِجَارِ فَكَانَتْ بِأَثَرِهَا صَالِحَةً أَنْ تَكُونَ زَاجِرَةً كَالْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ وَهَذِهِ عِبَادَةٌ تَحْتَاجُ تَفْوِيتُهَا إلَى الزَّاجِرِ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَهَا يَتَحَقَّقُ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُفَوِّتِ اسْتِدْرَاكُهُ وَدَعْوَةُ الطَّبِيعَةِ إلَى الْجَنَابَةِ عَلَيْهَا بِالْإِفْطَارِ أَمْرٌ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَيَحْتَاجُ فِي صِيَانَتِهَا إلَى الزَّاجِرِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ صَالِحَةٌ لِلزَّجْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا شُرِعَتْ زَاجِرَةً عَنْ الْإِفْطَارِ كَمَا شُرِعَتْ مَاحِيَةً لِلْجَرِيمَةِ فَكَانَتْ بِوُجُودِهَا مُكَفِّرَةً لِلذَّنْبِ مَاحِيَةً لَهُ وَبِوُجُوبِهَا وَالْخَوْفِ عَنْ لُزُومِهَا زَاجِرَةٌ
وَقَدْ تَرَجَّحَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا عَلَى مَعْنَى التَّكْفِيرِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَسْقُطُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَحَقَّقَتْ فِيهِ شُبْهَةُ إبَاحَةٍ كَالْحُدُودِ فَإِنَّ مَنْ جَامَعَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ أَوْ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَقَدْ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ الْمَرَضِ أَوْ السَّفَرِ لَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ وَإِنْ كَانَ بِالْجِمَاعِ فَلَمَّا سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ عَرَفْنَا أَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْعُقُوبَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ بَلْ يَجِبُ فِي مَوْضِعٍ يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ كَالْعَوْدِ فِي بَابِ الظِّهَارِ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالشُّرُوطِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ وَشَرَعَ الزَّاجِرُ فِيمَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِهِ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَكَذَا تَعَلُّقُ الْكَفَّارَةِ بِمَا يَتَعَذَّرُ الِانْزِجَارُ عَنْهُ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي بَابِ الْقَتْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ التَّكْفِيرُ مَقْصُودٌ وَمَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ تَابِعٌ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ مَقْصُودٌ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ يَزِيدُ بِمَا ذَكَرْنَا إيضَاحًا أَنَّ عِنْدَ عَدَمَ الْحَاجَةِ إلَى الزَّاجِرِ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَإِنْ تَحَقَّقَ الْمَأْثَمُ كَمَا فِي ابْتِلَاعِ الْحَصَاةِ أَوْ النَّوَاةِ وَالْإِفْطَارُ فِي غَيْرِ الشَّهْرِ فَإِنَّ الْمَأْثَمَ وَإِنْ اخْتَلَّ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ وَمَا شُرِعَ مَاحِيًا لِنَوْعِ إثْمٍ يَبْقَى مَشْرُوعًا لِمَحْوِ مَا دُونَهُ وَإِنْ قَلَّ فِي نَفْسِهِ كَالْحَانِثِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحِنْثُ وَكَذَا جَانِبُ الزَّجْرِ أَهَمُّ مِنْ جَانِبِ التَّكْفِيرِ فَإِنَّ.

الصفحة 151