كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

لِشُبْهَةٍ فِي الرُّؤْيَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ أَلْحَقَهَا بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا مَا قُلْنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ النَّبِيِّ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ وَلِأَنَّا وَجَدْنَا الصَّوْمَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا تَدْعُو الطِّبَاعُ إلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْبِنَاءِ وَتُؤْثِرُ الْبِنَاءَ عَلَى الْإِعْرَابِ لِذِي الْإِضَافَةِ إلَى الْمَاضِي عَلَى مَا رَوَى الْفَرَّاءُ عَنْ الْكِسَائِيّ عَنْ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّ الْبِنَاءَ فِي الْأَوَّلِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْإِعْرَابُ فِي الثَّانِي عِنْدَ الْكِسَائِيّ فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنْ كَانَتْ الرِّوَايَةُ بِالنَّصْبِ فَوَرَدَتْ عَلَى طَرِيقِ الْبِنَاءِ لَا أَنَّ الْمِيمَ انْتَصَبَتْ لِكَوْنِ الْيَوْمِ ظَرْفًا تَحَقَّقَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ لَمْ يَبْقَ فَرْضًا حَتَّى إنَّ مُنْكِرَهُ لَا يُضَلَّلُ وَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ بَيَانًا لِوُجُودِ الصَّوْمِ لَا لِوَقْتِ الْوُجُوبِ بَقِيَ الصَّوْمُ بِقَضِيَّةِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] فَرْضًا وَلَضُلِّلَ جَاحِدُهُ وَلَمَّا لَمْ يُضَلَّلْ دَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ بَيَانُ وَقْتِ الصَّوْمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي طَرِيقَتِهِ وَهَذَا مَيْلٌ مِنْهُ إلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فَإِنَّ عِنْدَهُمْ يَجُوزُ بِنَاءُ الظَّرْفِ عَلَى الْفَتْحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إنَّمَا يُبْنَى الظَّرْفُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِعْلِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مَبْنِيًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْرَبًا فَلَا يُبْنَى الظَّرْفُ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَيَكُونُ انْتِصَابُ يَوْمٍ عِنْدَهُمْ عَلَى الظَّرْفِ بِعَامِلٍ مُضْمِرٍ هُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَالتَّقْدِيرُ وَقْتُ صَوْمِكُمْ وَاقِعٌ أَوْ ثَابِتٌ يَوْمَ تَصُومُونَ فِيهِ جَمِيعًا
وَقَوْلُهُ لِشُبْهَةٍ فِي الرُّؤْيَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشُبْهَةِ الْقَضَاءِ يَعْنِي لَمَّا قَضَى الْقَاضِي بِرَدِّ شَهَادَتِهِ أَوْجَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رُؤْيَتِهِ وَهِيَ احْتِمَالُ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي الرُّؤْيَةِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا قَالَ الْخَصْمُ إنَّهُ رَأَى الْهِلَالَ حَقِيقَةً وَثَبَتَ فِي حَقِّهِ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَطَعَنَ الْقَاضِي فِي رُؤْيَتِهِ وَجَهْلُ سَائِرِ النَّاسِ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي مَسْأَلَتَيْ الْخَمْرِ وَالزِّفَافِ مَعَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَلْزَمُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا بِالْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ غَيْرِهِ فَيَعْتَبِرُ مَا عِنْدَهُ لَا مَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ شُبْهَةً
فَقَالَ: بِالْقَضَاءِ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةٌ فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ بُعْدَ الْمَسَافَةِ وَدِقَّةَ الْمَرْئِيِّ وَعَدَمَ رُؤْيَةِ سَائِرِ النَّاسِ تُوجِبُ شُبْهَةَ التَّخَيُّلِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُ هَذَا التَّخَيُّلِ أَصْلًا وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَظَهَرَ مِنْ بَعْدُ أَنَّهُ كَانَ تَخَيُّلًا مِنْ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى وَلِهَذَا إذَا شُكِّكَ يَتَشَكَّكُ وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَشَكَّكُ فِيمَا عَايَنَهُ، لَكِنَّ الشَّرْعَ أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تُقَاوِمُ الْحَقِيقَةَ وَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا فَإِذَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فَقَدْ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فَتُؤَثِّرُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتَيْ الْخَمْرِ وَالزِّفَافِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ فِيهِمَا غَيْرُ مُشْتَبَهٍ وَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَعْرِفَ الْبَعْضُ الْخَمْرَ وَلَا يَعْرِفَهَا الْبَعْضُ لِعَدَمِ التَّجْزِئَةِ وَأَنْ يَعْرِفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَالْمُمَارَسَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ جَهْلُ الْغَيْرِ فِي عِلْمِهِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْكُلُّ سَوَاءٌ فِي دَلِيلِ الْمَعْرِفَةِ وَتَفَرُّدُهُ يُوجِبُ خَلَلًا فِي الرُّؤْيَةِ فَإِذَا اعْتَبَرَهُ الْحَاكِمُ يَصْلُحُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ.
وَقَوْلُهُ: خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ مَا خَلَا كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا عُقُوبَةٌ وُجُوبًا أَيْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا رَاجِحٌ حَتَّى سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ أَلْحَقَ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ بِسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَأَنَّهَا ضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِجِنَايَتِهِ إلَّا أَنَّا أَيْ لَكِنَّا أَثْبَتْنَا مَا قُلْنَا مِنْ تَرْجِيحِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ»
قَيَّدَ الْإِفْطَارَ بِصِفَةِ التَّعَمُّدِ الَّذِي بِهِ يَتَكَامَلُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، ثُمَّ رَتَّبَ وُجُودَ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ

الصفحة 156