كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَالْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبُ حَدِّ الْقَذْفِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQمُوجِبًا بُطْلَانَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا اسْتِحَالَةَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهِ مُوجِبًا عَدَمَ نَفْسِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْمُوجِبُ يَتَعَقَّبُهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ إذَا كَانَ يُقَارِنُهُ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ مَا يُوجِبُ عَدَمَهُ بِحَالَةِ وُجُودِهِ يُؤَدِّي إلَى الْمُنَاقَضَةِ وَحُكْمُ الْمَعْصِيَةِ هَاهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا وُجُودُهَا وَالْمُوجِبُ لِمَحْوِ أَثَرِ الْمَعْصِيَةِ وُجُودُ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الثَّوَابِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْمَحْوُ يَتَعَلَّقُ بِالْوُجُودِ وَبِالْوُجُوبِ وَهُوَ مُتَعَقِّبٌ عَنْ الْمَعْصِيَةِ لَا مَحَالَةَ لِتَعَقُّبِ وُجُودِ الْكَفَّارَةِ وُجُوبَهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا اسْتِحَالَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْحُدُودُ أَحْكَامًا لِلْمَعَاصِي وَإِنْ كَانَتْ هِيَ كَفَّارَاتٍ لَهَا بِشَهَادَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِحَالَةٌ فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ لِوُجُوبِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى سَقَطَتْ بِالشُّبْهَةِ قُلْنَا بِتَدَاخُلِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْفِطْرِ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ مِرَارًا فِي رَمَضَانَ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَيْنِ وَلَمْ يُكَفِّرْ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَرُوِيَ فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ لِكُلِّ فِطْرٍ كَفَّارَةٌ عَلَى حِدَةٍ كَمَا إذَا ظَاهَرَ مِرَارًا أَوْ قَتَلَ إنْسَانًا خَطَأً؛ لِأَنَّ التَّدَاخُلَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِعُقُوبَةٍ مَحْضَةٍ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهَا بِمَا تَمَحَّضَ عُقُوبَةً وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا خُصَّتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي إسْقَاطِهَا بِالشُّبْهَةِ لِتَرَجُّحِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ فِيهَا الدَّرْءُ وَالتَّدَاخُلُ مِنْ بَابِ الدَّرْءِ كَمَا فِي الْحُدُودِ
وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَوَجَبَتْ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَتْ فَإِنَّهَا زَاجِرَةٌ وَقَدْ حَصَلَ الزَّجْرُ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مَعْدُومًا أَوْ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا فِي الْحُدُودِ وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا كَفَّرَ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ أَفْطَرَ تَلْزَمُهُ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِانْزِجَارَ لَمْ يَحْصُلْ بِالْأُولَى فَكَانَ فِي الثَّانِيَةِ فَائِدَةٌ كَمَا فِي الْحَدِّ سَوَاءً فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَا سِوَى الْمَرَّةِ الْأُولَى لَمْ يَنْعَدِمْ سَبَبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّدَاخُلِ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ بَعْدَمَا وَجَبَ مَرَّةً وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ الزَّاجِرَ فِي كُلِّ بَابٍ بِالْجِنَايَاتِ وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَاسْتِيفَاءُ الزَّوَاجِرِ يُؤَدِّي إلَى جَعْلِ الزَّاجِرِ زِيَادَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِذَا لَمْ يَتَكَرَّرْ الِاسْتِيفَاءُ فِي الْحُدُودِ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَنْعَقِدُ الْجِنَايَاتُ عِلَلًا فِي أَنْفُسِهَا وَالزَّاجِرُ الْمُسْتَوْفَى يَكُونُ حُكْمًا لِكُلِّ عِلَّةٍ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ وَحُرْمَةِ الْمُقَدَّرِ الْمَبِيعِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً فَإِنَّهَا تَكُونُ ثَابِتَةً بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ تَامَّةٌ فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعِلَلِ يُسَمَّى عِلَلًا مُتَعَاوِرَةً عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فَكَانَ مَعْنَى التَّدَاخُلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الِاكْتِفَاءَ بِحُكْمٍ وَاحِدٍ عَنْ عِلَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ إلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَيْ الْحُقُوقُ الْخَالِصَةُ لَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى نَحْوُ ضَمَانِ الدِّيَةِ وَبَدَلِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ وَمِلْكِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَمِلْكِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَمَا أَشْبَهَهَا.

قَوْلُهُ (وَالْمُشْتَمِلُ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقِّ الْعَبْدِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ حَدُّ الْقَذْفِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْحَقَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنَّ شَرْعَهُ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَشَرْعَهُ حَدًّا زَاجِرًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَحْكَامُ تَشْهَدُ لِذَلِكَ أَيْضًا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ أَلَا أَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ غَالِبٌ عِنْدَنَا كَمَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ حَتَّى لَا يَجْرِيَ

الصفحة 158