كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

لَكِنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَدَثِ بِطَهَارَةٍ حَصَلَتْ بِهِ لَا مَعَ الْحَدَثِ فَهَذَا الَّذِي جَعَلَ خَلَفًا مُطْلَقًا لَا يُبِيحُ بِدُونِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمًا آخَرَ وَلِلْخَلَفِ حُكْمُ الْأَصْلِ لَا حُكْمٌ آخَرُ فَمَنْ قَالَ هُوَ خَلَفٌ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ مَعَ الْحَدَثِ جَعَلَهُ غَيْرَ خَلَفٍ عَنْ التَّوَضُّؤِ إذْ التَّوَضُّؤُ لَا يُبِيحُ الْأَدَاءَ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ الْمَوْجُودِ قَبْلَ التَّوَضُّؤِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُبِيحُ بِوَاسِطَةِ رَفْعِهِ فَيَكُونُ الْإِبَاحَةُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ حُكْمًا آخَرَ غَيْرَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا عَنْهُ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ قَوْلُهُ (لَكِنَّ الْخِلَافَ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقُلْنَا نَحْنُ هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ أَيْ هُوَ خَلَفٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا، لَكِنَّ الْخِلَافَةَ بَيْنَ الْآلَتَيْنِ وَهُمَا الْمَاءُ وَالتُّرَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ وَهُمَا الْوُضُوءُ وَالِاغْتِسَالُ وَالتَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْوُضُوءِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةُ وَبِالِاغْتِسَالِ بِقَوْلِهِ فَاغْتَسِلُوا، ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ بِقَوْلِهِ {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فَكَانَتْ الْخِلَافَةُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَالتَّيَمُّمِ لَا بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ عِنْدَ النَّقْلِ إلَى التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَدَلَّ أَنَّ الْخَلَفِيَّةُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ لَا بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَالتَّيَمُّمِ كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَصَّ عَلَى الْمَحِيضِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] الْآيَةُ عُلِمَ أَنَّ الْأَشْهُرَ خَلَفٌ عَنْ الْحِيَضِ لَا عَنْ التَّرَبُّصِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُتْرَكُ ظَاهِرُ النَّصِّ إلَّا بِدَلِيلٍ يَمْنَعُنَا عَنْ الْعَمَلِ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَا يُقَالُ قَدْ وُجِدَ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّ الصَّعِيدَ لَيْسَ بِطَهُورٍ بَلْ هُوَ مُلَوَّثٌ فَلَا يَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي كَوْنِهِ طَهُورًا فَنَجْعَلُ الْخِلَافَةَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْفِعْلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ لَيْسَ بِطَهُورٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّ النَّجَاسَةَ فِي الْمَحَلِّ حُكْمِيَّةٌ وَهَذِهِ طَهَارَةٌ حُكْمِيَّةٌ فَجَازَ إثْبَاتُهَا بِالصَّعِيدِ فَكَانَ الصَّعِيدُ طَهُورًا حُكْمًا فَيَصْلُحُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي إثْبَاتِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» .
وَقَوْلُهُ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا» نَصَّ عَلَى طَهُورِيَّةِ التُّرَابِ وَالْأَرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التُّرَابَ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ فِي الطَّهُورِيَّةِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَتَبَيَّنَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَعَلَ التَّيَمُّمَ بَدَلًا عَنْ الْوُضُوءِ لِإِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْحَدَثِ لَا لِرَفْعِ الْحَدَثِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بَدَلٌ عَنْهُ فِي حَقِّ رَفْعِ الْحَدَثِ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ وَقُرْبَانِ الزَّوْجِ
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ جَعَلَا الصَّعِيدَ بَدَلًا عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فِي إفَادَةِ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ لِلصَّلَاةِ لَا غَيْرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ قَوْلُهُ (وَيَبْتَنِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا مَسْأَلَةُ إمَامَةِ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِينَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئِينَ مَا لَمْ يَجِدْ الْمُتَوَضِّئُ الْمَاءَ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ لِأَنَّ التُّرَابَ لَمَّا كَانَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُصُولِ الطَّهَارَةِ كَانَ شَرْطُ الصَّلَاةِ بَعْدَ حُصُولِ الطَّهَارَةِ مَوْجُودًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَاسِحِ يَؤُمُّ الْغَاسِلِينَ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ عَنْ الرِّجْلِ فِي قَبُولِ الْحَدَثِ لَا أَنَّ الْمَسْحَ خَلَفٌ عَنْ الْغَسْلِ بَلْ الْمَسْحُ أَصْلٌ كَالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ فَكَانَتْ طَهَارَةُ الْمَاسِحِ طَهَارَةً أَصْلِيَّةً غَيْرَ مَنْقُولَةٍ إلَى بَدَلٍ فَكَذَا هَاهُنَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَؤُمُّ الْمُتَيَمِّمُ الْمُتَوَضِّئَ بِحَالٍ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ عِنْدَهُ لَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ خَلَفًا عَنْ الْوُضُوءِ كَانَ الْمُتَيَمِّمُ صَاحِبَ الْخَلَفِ وَالْمُتَوَضِّئُ صَاحِبَ الْأَصْلِ وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ الْقَوِيِّ أَنْ يَبْنِيَ صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ صَاحِبِ الْخَلَفِ كَمَا لَا يَبْنِي الْمُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ عَلَى الصَّلَاةِ الْمُومِئِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمُتَوَضِّئِ مَاءٌ لَا يَجُوزُ اقْتِدَاؤُهُ بِالْمُتَيَمِّمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ

الصفحة 164