كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً مِثْلُ الْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحُ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَكِنَّ إيجَابَهُ لَمَّا كَانَ غَيْبًا نُسِبَ الْوُجُوبُ إلَى الْعِلَلِ فَصَارَتْ مُوجِبَةً فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَبِجَعْلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ إيَّاهَا كَذَلِكَ وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ هِيَ أَعْلَامٌ خَالِصَةٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّ حَرَكَةَ الْإِصْبَعِ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ حَرَكَةِ الْخَاتَمِ مُقَارِنَةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ إذْ لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَزِمَ تَدَاخُلُ الْأَجْسَامِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى مَا عُرِفَ وَكَذَا الْحَرَكَةُ عِلَّةُ صَيْرُورَةِ الشَّخْصِ مُتَحَرِّكًا وَالسَّوَادُ عِلَّةٌ لِصَيْرُورَةِ الشَّيْءِ أَسْوَدَ وَهُمَا يُوجَدَانِ مَعًا وَلِهَذَا جَعَلْنَا الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي هِيَ عِلَّةُ الْفِعْلِ مُقَارِنَةً لَهُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَيْ الْجُرْحَ كَالْكَسْرِ وَالْهَدْمِ وَالْقَطْعِ عِلَلٌ لِلِانْكِسَارِ وَالِانْهِدَامِ وَالِانْقِطَاعِ مُقَارِنَةٌ فِي الْوُجُودِ إيَّاهَا وَهُوَ أَيْ الْمَذْكُورُ وَهُوَ الْعِلَّةُ أَوْ لَفْظُ الْعِلَّةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ أَيْ ثُبُوتُهُ ابْتِدَاءً اُحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ فَإِنَّ الشَّرْطَ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُودُ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُجِدَ عِنْدَهُ لَا وُجُوبُهُ وَبِقَوْلِهِ ابْتِدَاءً عَنْ السَّبَبِ وَالْعَلَامَةِ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالثُّبُوتِ ابْتِدَاءُ الثُّبُوتِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِّ الْعِلَلُ الْوَضْعِيَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا الشَّرْعُ عِلَلًا كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَالْأَوْقَاتِ لِلْعِبَادَاتِ وَالْعِلَلُ الْمُسْتَنْبَطَةُ بِالِاجْتِهَادِ كَالْمَعَادِنِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَقْيِسَةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُضَافٌ إلَى الْعِلَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ مَا ذَكَرَ السَّيِّدُ الْإِمَامُ الشَّهِيدُ أَبُو الْقَاسِمِ السَّمَرْقَنْدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ تَخَلُّفٍ قَالَ وَبِهَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ يُفَارِقُ السَّبَبَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبَ يَتَنَاوَبَانِ فِي الْأَبْنَاءِ وَالْمُلَاءَمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ حُكْمُهُ وَقَدْ يَتَخَلَّفُ وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّأَخُّرُ وَالتَّخَلُّفُ فِي الْعِلَّةِ.
وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمَعْنَى الَّذِي إذَا وُجِدَ يَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ مَعَهُ وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ مَعَهُ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ إنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْأَمْرُ الَّذِي إذَا وُجِدَ وُجِدَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْمُقَارَنَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّأَخُّرِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الِاسْتِطَاعَةَ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ لَا سَابِقَةً عَلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ: هَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ الصَّحِيحُ فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَا يَجِبُ بِهِ الْحُكْمُ فَإِنَّ وُجُوبَ الْحُكْمِ وَثُبُوتَهُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنَّهُ أَوْجَبَ الْحُكْمَ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَبِسَبَبِ هَذَا الْمَعْنَى وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَفْعَلُ فِعْلًا بِسَبَبٍ وَيَفْعَلُ فِعْلًا ابْتِدَاءً وَيُثْبِتُ حُكْمًا بِسَبَبٍ وَحُكْمًا ابْتِدَاءً بِلَا سَبَبٍ وَحِكْمَةٍ وَفِعْلُهُ قَطُّ لَا يَخْلُو عَنْ الْحِكْمَةِ عَرَفْنَا وَجْهَ الْحِكْمَةِ أَوْ لَمْ نَعْرِفْ قَوْلُهُ (لَكِنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ عَمَّا يُضَافُ إلَيْهِ وُجُوبُ الْحُكْمِ يَعْنِي الْأَحْكَامَ وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْعِلَلِ فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْعِلَلَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَلَمْ يَكُنْ بِمُوجِبَةٍ لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الْعِلَّةِ مُوجِبَةً بِنَفْسِهَا عَدَمُ تَصَوُّرِ انْفِكَاكِ الْحُكْمِ عَنْهَا لَا أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لَهُ حَقِيقَةً إذْ الْمُتَوَالِدَاتُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّ الْكَسْرَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِانْكِسَارِ وَالْحَرَكَةَ بِدُونِ التَّحَرُّكِ وَالْإِحْرَاقَ بِدُونِ الِاحْتِرَاقِ.
وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُشَرِّعَ الْأَحْكَامَ بِلَا عِلَلٍ، وَلَكِنَّ إيجَابَهُ لَمَّا كَانَ غَيْبًا عَنْ الْعِبَادِ وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ دَرْكِهَا شَرَعَ الْعِلَلَ الَّتِي يُمْكِنُ لَهُمْ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا مُوجِبَاتٍ لِلْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَنُسِبَ الْوُجُوبُ إلَيْهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ تَيْسِيرًا فَصَارَتْ الْعِلَلُ مُوجِبَةً فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا كَذَلِكَ أَيْ مُوجِبَةً لَا بِأَنْفُسِهَا وَفِي حَقِّ صَاحِبِ.

الصفحة 171