كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَهَذَا كَأَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الطَّاعَاتِ لَيْسَ بِمُوجِبَةٍ لِلثَّوَابِ بِذَوَاتِهَا بَلْ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فَصَارَتْ النِّسْبَةُ إلَيْهَا بِفَضْلِهِ وَكَذَلِكَ الْعِقَابُ يُضَافُ إلَى الْكُفْرِ عَنْ هَذَا الْوَجْهِ فَأَمَّا أَنْ تُجْعَلَ لَغْوًا كَمَا قَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ أَوْ مُوجِبَةً بِأَنْفُسِهَا كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَلَا فَكَذَلِكَ حَالُ الْعِلَلِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ إذَا رَجَعَ نُسِبَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ حَتَّى صَارَ ضَامِنًا.

وَأَمَّا الشَّرْطُ فَتَفْسِيرُهُ فِي اللُّغَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْعِ هَذِهِ الْعِلَلُ إعْلَامٌ خَالِصَةٌ أَيْ فِي حَقِّهِ هِيَ الْإِعْلَامُ لِلْعِبَادِ عَلَى الْإِيجَابِ لَا أَنَّهَا إعْلَامٌ فِي حَقِّهِ وَهِيَ نَظِيرُ الْإِمَاتَةِ فَإِنَّ الْمُمِيتَ وَالْمُحْيِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى حَقِيقَةً، ثُمَّ جُعِلَتْ الْإِمَاتَةُ مُضَافَةً إلَى الْقَاتِلِ بِعِلَّةِ الْقَتْلِ فِيمَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَالْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِذَوَاتِهَا بَلْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا مُوجِبَةً مِثْلَ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مِنْ الطَّاعَاتِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمُوجِبَةِ الثَّوَابِ بِذَوَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ بِعَمَلِهِ لَهُ ثَوَابًا قَطُّ وَقَدْ يَنْفَكُّ الْأَفْعَالُ عَنْ الثَّوَابِ أَيْضًا كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا السَّهَرُ وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ جَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ كَذَلِكَ أَيْ مُوجِبَةً لِلثَّوَابِ بِقَوْلِهِ {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 85] فَصَارَتْ النِّسْبَةُ أَيْ نِسْبَةُ الثَّوَابِ إلَى الْأَفْعَالِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] وَالْعَطَاءُ مَا كَانَ مِنْ الْمُعْطِي ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
«يُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ دِيوَانُ النِّعَمِ وَدِيوَانُ الْأَعْمَالِ أَيْ الطَّاعَاتِ وَدِيوَانُ الْمَعَاصِي فَيُقَابَلُ دِيوَانُ النِّعَمِ بِدِيوَانِ الْأَعْمَالِ فَيَبْقَى دِيوَانُ الْمَعَاصِي فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ» وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ تُضَافُ إلَى الْكُفْرِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الثَّوَابَ يُضَافُ إلَى الطَّاعَاتِ تُضَافُ الْعُقُوبَاتُ إلَى الْكُفْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْعُقُوبَاتِ بِذَاتِهِ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَاتِ كَمَا جَعَلَ الطَّاعَاتِ كَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ مَوْلَانَا حُمَيْدٍ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا الْكَلَامُ يَنْزِعُ إلَى مَذْهَبٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَقْلًا إلَّا أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَأَمَّا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي تَعْذِيبَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ وَتَرْكُ التَّعْذِيبِ لَيْسَ بِحِكْمَةٍ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّأْوِيلَاتِ فَكَانَ الْكُفْرُ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ بِذَاتِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ عَقْلًا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ بِذَاتِهِ لِلْعُقُوبَاتِ الَّتِي وَرَدَ النُّصُوصُ بِهَا وَإِنَّمَا جُعِلَ سَبَبًا لِتِلْكَ الْعُقُوبَاتِ بِالشَّرْعِ وَلِهَذَا جَازَ التَّخْفِيفُ فِي حَقِّ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَالتَّغْلِيظُ فِي حَقِّ الْبَعْضِ فَكَانَ مِثْلَ الطَّاعَاتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَكَانَتْ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ الْعُقُوبَاتِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْعُقُوبَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي النُّصُوصِ فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ الْأَفْعَالَ لَغْوًا كَمَا قَالَتْ الْجَبْرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَبِرُوا أَفْعَالَ الْعِبَادِ أَصْلًا وَنَفَوْا عَنْهَا تَدْبِيرَ الْخَلْقِ وَجَعَلُوهَا كُلَّهَا اضْطِرَارِيَّةً كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ وَالْعُرُوقِ النَّابِضَةِ وَجَعَلُوا إضَافَةَ الْأَفْعَالِ إلَى الْعِبَادَةِ مَجَازًا فَقَالُوا: مَشَى زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو بِمَنْزِلَةِ طَالَ الْغُلَامُ وَمَاتَ زَيْدٌ وَابْيَضَّ شَعْرُ بَكْرٍ وَشَاخَ عَبْدُ اللَّهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَفْعَالُ الْعِبَادِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَلَا لِلْعِقَابِ بِوَجْهٍ بَلْ اللَّهُ تَعَالَى يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِحُكْمِ تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ عَلَى حَسَبِ إرَادَتِهِ وَمُوجِبَةٌ بِأَنْفُسِهَا كَمَا قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا تَدْبِيرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ بِالْكُلِّيَّةِ وَقَالُوا: يَخْتَرِعُهَا الْعِبَادُ وَيَتَوَلَّوْنَ إيجَادَهَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشَأْ فَيَكُونُ الْأَفْعَالُ أَسْبَابًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِأَنْفُسِهَا عِنْدَهُمْ وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْعَبْدَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِعَمَلِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ بِفِعْلِهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَبِدًّا بِهِ فَلَا أَيْ فَلَا تَجْعَلْ كَمَا قَالُوا بَلْ يُقَالُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَوْجُودَةٌ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ بِهَا صَارُوا عُصَاةً وَمُطِيعِينَ وَمَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلَةٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَيُسْتَفَادُ بِالْأَوَّلِ ثُبُوتُ الْعَدْلِ وَنَفْيُ الظُّلْمِ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] .
1 -

الصفحة 172