كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا لَمَّا كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِي وُسْعِهِمْ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِهِ تَحْقِيقًا لِشَرْطِ التَّكْلِيفِ كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ حَتَّى تَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ جَمِيعًا وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ مَعَ إحَاطَةِ الْعِلْمِ بِخَطَأِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ وَعَلَى اخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنْ قَالَ بِاسْتِوَاءِ الْحُقُوقِ قَالَ: لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ لَمْ يُوجِبْ التَّفَاوُتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَطْعِيًّا أُمِرَ الْمُجْتَهِدُ بِطَلَبِهِ فَإِذَا أَخْطَأَ لَا يَصِحُّ عَمَلُهُ وَيَنْقُضُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ، وَلَكِنْ يَحُطُّ عَنْهُ الْإِثْمَ لِغُمُوضِ الدَّلِيلِ وَخَفَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ، وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ. وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْمُخْطِئُ فِيهِ آثِمٌ غَيْرُ مَعْذُورٍ كَمَا فِي سَائِرِ الْقَطْعِيَّاتِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ نُسَخِ الْأُصُولِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ إذَا أَخْطَأَ كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً يَعْنِي كَانَ مُخْطِئًا فِي اجْتِهَادِهِ، وَمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الرَّابِعِ. وَبِقَوْلِهِ هُوَ مُصِيبٌ فِي ابْتِدَاءِ اجْتِهَادِهِ يَعْنِي فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَلَكِنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا طَلَبَهُ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْحَادِثَةِ أَشَارَ إلَى الْقَوْلِ الثَّانِي وَاخْتَارَهُ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ قَوْمٌ إذَا لَمْ يُصِبْ الْمُجْتَهِدُ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَصِحُّ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا كَانَ مُخْطِئًا لِلْحَقِّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُصِيبًا فِي حَقِّ عَمَلِهِ حَتَّى أَنَّ عَمَلَهُ بِهِ يَقَعُ صَحِيحًا شَرْعًا كَأَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ بَلَغَنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ لِيُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ فَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي أَخْطَأَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مُصِيبٌ فِي حَقِّ عَمَلِهِ. ثُمَّ قَالَ فَصَارَ قَوْلُنَا هَذَا الْقَوْلُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ.
قَوْلُهُ: (احْتَجَّ مَنْ ادَّعَى الْحُقُوقَ) وَهُمْ الْمُصَوِّبَةُ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ قَدْ كُلِّفُوا إصَابَةَ الْحَقِّ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا كُلِّفُوا الْفَتْوَى بِغَالِبِ الرَّأْيِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بِإِصَابَةِ الْحَقِّ إذْ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ، وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُكَلِّفَ بِالضَّلَالِ وَالْخَطَأِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْفَتْوَى بِغَالِبِ الرَّأْيِ مُكَلَّفُونَ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ. وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ أَيْ التَّكْلِيفُ بِالْإِصَابَةِ بِالنَّظَرِ إلَى وُسْعِهِمْ إلَّا بِأَنْ يُجْعَلَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّدًا، وَكَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِ كُلِّ وَاحِدٍ إصَابَتُهُ لِغُمُوضِ طَرِيقِهِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْإِصَابَةِ حِينَئِذٍ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الْحَقِّ. تَحْقِيقًا بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا تَثْبُتُ بِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّكْلِيفُ بِدُونِهِ. كَمَا قِيلَ فِي الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ إنَّهُمْ جُعِلُوا مُصِيبِينَ لِلْقِبْلَةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ وَجُعِلَتْ الْجِهَاتُ كُلُّهَا قِبْلَةً فِي حَقِّهِمْ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] حَتَّى لَوْ صَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ إلَى جِهَةٍ تَأَدَّى عَنْهُمْ الْفَرْضُ جَمِيعًا. وَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ عَنْهُمْ أَيْ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِصَابَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ فَلَوْ لَمْ يَصِرْ كُلُّ الْجِهَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْكَعْبَةِ فِي حَقِّهِمْ لَمَا تَأَدَّى فَرْضُ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ مِنْهُمْ لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ، وَإِنَّمَا عَيَّنَ هَذَا الْوَجْهَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَوَجَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ بِوَجْهٍ فَكَانَ خَطَؤُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَنْ وَقَعَ يَمِينُهُ أَوْ يَسَارُهُ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فِي تَحَرِّيهِ فَلَيْسَ بِمُخْطِئٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ تَوَجُّهِ الْكَعْبَةِ مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ الْعِذَارُ وَلِهَذَا أَمَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ فِي تَحَرِّيهِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِإِعَادَةِ صَلَاةِ مَنْ تَوَجَّهَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى. وَقَوْلُهُ وَجَائِزٌ تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَعَدُّدِ الْحُقُوقِ يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ، وَهُمَا الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ وَالصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ إذْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا حَلَالًا وَحَرَامًا، وَقَلِيلُ النَّبِيذِ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَالنِّكَاحُ الْأَوْلَى صَحِيحًا

الصفحة 19