كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

مُتَنَوِّعٌ فَمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَشَقَّةِ أُقِيمَ مَقَامَهَا وَمَا لَا فَلَا وَكَذَلِكَ النَّوْمُ مِمَّا كَانَ مِنْهُ سَبَبًا لِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ مَقَامَهُ فَصَارَ حَدَثًا وَإِنَّمَا نُقِلَ إلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ لِلتَّيْسِيرِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْرَاءُ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّغْلِ ثُمَّ نُقِلَ إلَى اسْتِحْدَاثِ سَبَبِ الشَّغْلِ تَيْسِيرًا وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْأَصْلِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى وَذَلِكَ بِطَرِيقَيْنِ يَكُونُ إقَامَةُ السَّبَبِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ مِثْلُ السَّفَرِ وَالْمَرَضِ وَالنَّوْمِ وَالْمَسِّ وَالنِّكَاحِ مَقَامَ الْوَطْءِ.
وَالثَّانِي أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ مَقَامَ الْمَدْلُولِ مِثْلُ الْخَبَرِ عَنْ الْمَحَبَّةِ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ وَمِثْل الطُّهْرِ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِي إبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَمِثْلُ مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ وَفِقْهُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ إنْ أَحْبَبْتِينِي أَوْ أَبْغَضْتِينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفِي الِاسْتِبْرَاءِ وَفِي قِيَامِ النِّكَاحِ مَقَامَ الْمَاءِ وَلِلِاحْتِيَاطِ كَمَا قِيلَ فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي فِي الْحُرُمَاتِ وَالْعِبَادَاتِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَعْنًى.
وَأَمَّا الْمَعْنَى أَيْ فَوَاتُ مَعْنَى الْعِلَّةِ عَنْ السَّفَرِ فَلِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَعَلَّقَتْ بِالْمَشَقَّةِ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ السَّفَرِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي إيجَابِ الرُّخْصَةِ الَّتِي مَبْنَاهَا عَلَى الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] إلَّا أَنَّهُ أَيْ لَكِنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ ثُبُوتُ الرُّخْصَةِ أُضِيفَ إلَى السَّفَرِ دُونَ حَقِيقَةِ الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ يَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّفَرَ الْمَخْصُوصَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُخْتَصَرِ التَّقْوِيمِ السَّفَرُ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْمَشَقَّةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ وَإِنْ كَانَ فِي رَفَاهِيَةٍ لَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ مَشَقَّةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالسَّفَرِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ وَأَبَدًا يُضَافُ لِلْحُكْمِ عِلَّةُ الْعِلَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ دَارَ الْحُكْمُ مَعَ السَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ السَّفَرِ الْمَرَضُ عِلَّةٌ لِلرُّخْصَةِ اسْمًا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ تُنْسَبُ إلَيْهِ كَمَا تُنْسَبُ إلَى السَّفَرِ رُخْصَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ مُقْتَرِنًا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَأَخُّرٍ لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ مَالَهَا أَثَرٌ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ وَلَا أَثَرَ لِنَفْسِ الْمَرَضِ فِي إيجَابِ الرُّخْصَةِ بَلْ الْمُوجِبُ الْحَقِيقِيُّ مَعْنًى تَحْتَهُ وَهُوَ خَوْفُ التَّلَفِ وَزِيَادَةُ الْمَرَضِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى أَمْرًا بَاطِنًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِي إضَافَةِ الْحُكْمَ إلَيْهِ وَصَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَرَضِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْخَوْفِ وَالْمَشَقَّةِ وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يُوجِبُ الْمَشَقَّةَ بِكُلِّ حَالٍ فَأَمَّا الْمَرَضُ فَقَدْ يُوجِبُ خَوْفَ التَّلَفِ وَالْمَشَقَّةِ وَقَدْ لَا يُوجِبُ كَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ أَيْ الْمَرَضَ مَتْبُوعٌ إلَى آخِرِهِ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ الْمَذْكُورِ سَابِقًا الِاسْتِبْرَاءُ وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ فِي الْأَمَةِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى انْقِضَاءِ حَيْضَةٍ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مُتَعَلِّقٌ بِالشُّغْلِ أَيْ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِالشُّغْلِ هُوَ مَصْدَرُ شُغِلَ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لَا شَغَلَ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ يَعْنِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ فِي الْحَقِيقَةِ بِوَهْمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي إيجَابِهِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ صَوْنُ الْمَاءِ عَنْ الْخَلْطِ بِمَاءٍ آخَرَ وَالِاحْتِرَازُ عَنْ سَقْيِ زَرْعِ الْغَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» وَذَلِكَ يَجِبُ عِنْدَ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ لَكِنَّ الشُّغْلَ لَمَّا كَانَ بَاطِنًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الشُّغْلَ يَكُونُ بِالْوَطْءِ وَبِالْمِلْكِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمِلْكِ كَانَ لِلْمِلْكِ اتِّصَالٌ بِهِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَأُشِيرَ فِي التَّقْوِيمِ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءٍ قَدْ وُجِدَ إلَّا أَنَّهُ لَوْ عَلِقَ بِالْمَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَتَعَذَّرَ عَلَيْنَا مُرَاعَاتُهُ فَعَلِقَ بِالسَّبَبِ الْمُؤَدَّى إلَى خَلْطِ الْمِيَاهِ وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ مِلْكِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْدَاثَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لَزِمَ الْبَائِعَ وَمِنْ غَيْرِ ظُهُورِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا عَنْ مَائِهِ فَلَوْ أَبَحْنَا الْوَطْءَ لِلثَّانِي بِنَفْسِ الْمِلْكِ لَأَدَّى إلَى الْخَلْطِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ سَبَبًا مُؤَدِّيًا إلَيْهِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى.
وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ بِاسْتِحْدَاثِ مِلْكِ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَإِنْ احْتَمَلَ رَحِمُهَا

الصفحة 200