كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَذَلِكَ فِي كُلِّ تَعْلِيقٍ بِحَرْفِ مِنْ حُرُوفِ الشُّرُوطِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَكُلَّمَا دَخَلْت وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ أَلَا يُرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا ثُمَّ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى شَرْطِ الْعِلْمِ حَتَّى إنَّ النَّصَّ النَّازِلَ لَا حُكْمَ لَهُ قَبْلَ الْعِلْمِ مِنْ الْمُخَاطَبِ فَإِنْ أَسْلَمَ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ قَبْلَ الْعِلْمِ فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ رُكْنُ الْعِبَادَاتِ يَنْعَدِمُ لِعَدَمِ شُرُوطِهَا وَهِيَ النِّيَّةُ وَالطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ رُكْنُ النِّكَاحِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ يَنْعَدِمُ عِنْدَ عَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ أَثَرَ الشَّرْطِ عِنْدَنَا انْعِدَامُ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَرَاخِي الْحُكْمِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ أَوْ دَلَالَتِهِ وَقَطُّ لَا تَنْفَكُّ صِيغَتُهُ عَنْ مَعْنَاهُ فَأَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ شَرْطٌ عَادَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا قَوْلٌ بِأَنَّهُ لَغْوٌ وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQعِلَّةً وَيَصِيرُ تَحْرِيرًا فَيَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَحْضُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ وُجُودُ الْعِلَّةِ عَلَى وُجُودِهِ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ جَمِيعًا
أَلَا تَرَى أَنَّ وُجُوبَ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِهَا عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ بَيَانِ أَسْبَابِ الشَّرَائِعِ ثُمَّ يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ أَيْ صَيْرُورَةُ السَّبَبِ سَبَبًا عَلَى شَرْطِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِالْخِطَابِ الَّذِي بِهِ صَارَ السَّبَبُ سَبَبًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] أَوْ عَلَى مَا يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ مِنْ شُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْقُدْرَةِ وَهِيَ لَا تَحْصُلُ بِدُونِ الْعِلْمِ فَشَرَطَ الْعِلْمَ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ.
وَلَا يُقَالُ إنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الْعِلْمِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ الَّذِي هُوَ الثَّابِتُ بِالْخِطَابِ لَا كَوْنُهُ سَبَبًا وَلَا نَفْسُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الصَّوْمِ عَلَى الْمَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يَسْتَغْرِقْ جُنُونُهُ الشَّهْرَ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْعِلْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّ شُيُوعَ الْخِطَابِ وَبُلُوغَهُ إلَى الدَّهْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبُلُوغِ إلَى كُلِّ أَحَدٍ فَإِنَّ مَنْ أَسْلَمَ يَعْنِي مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرَائِعِ قَبْلَ الْعِلْمِ حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا فَاتَ فِي حَقِّهِ مَنَعَ السَّبَبَ مِنْ الِانْعِقَادِ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ وَلَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرَائِعِ حَتَّى مَضَى عَلَيْهِ زَمَانٌ ثُمَّ عَلِمَ بِهَا وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى لَا لِأَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ؛ لِأَنَّ شُيُوعَ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَيَسُّرَ الْوُصُولِ إلَيْهِ بِأَدْنَى طَلَبٍ يَقُومُ مَقَامَ وُجُودِهِ فَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةً حَقِيقَةً بِوُجُودِ الشَّرْطِ حُكْمًا فَصَارَتْ الْأَسْبَابُ مِثْلَ الْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ وَشُهُودِ الشَّهْرِ لِلصَّوْمِ وَالْبَيْتِ لِلْحَجِّ وَالْعِلَلُ وَمِثْلُ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ لِلرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ أَيْ الشَّيْءِ الْمَعْدُومِ فِي حَقِّهِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَكَذَلِكَ أَيْ وَكَمَا يَنْعَدِمُ الْأَسْبَابُ وَالْعِلَلُ فِي حَقِّ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ يَنْعَدِمُ رُكْنُ الْعِبَادَاتِ وَكَذَلِكَ أَيْ وَمِثْلُ انْعِدَامِ رُكْنِ الْعِبَادَاتِ انْعِدَامُ رُكْنِ النِّكَاحِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا يَعْنِي فِي بَيَانِ التَّمَسُّكَاتِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ أَثَرَ الشَّرْطِ أَيْ أَثَرَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَذَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ الشُّرُوطِ أَيْ وَمِثْلُ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ الِاخْتِلَافُ فِي كُلِّ الشُّرُوطِ أَوْ وَمِثْلُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الشُّرُوطِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الشَّرْطُ بِصِيغَتِهِ بِأَنْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الشَّرْطِ فَكَانَ الْفِعْلُ الَّذِي دَخَلَ عَلَيْهِ شَرْطًا أَوْ دَلَالَتَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ.
قَوْلُهُ (وَقَطُّ لَا تَنْفَكُّ صِيغَةُ الشَّرْطِ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ) ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صِيغَةَ الشَّرْطِ قَدْ تَخْلُو عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الشَّرْطَ شَرْطَ تَغْلِيبٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ الشَّرْطُ لَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ وَالْعَادَةِ إذْ الْعَادَةُ الْغَالِبَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُكَاتِبُ الْعَبْدَ إذَا رَأَى فِيهِ خَيْرًا إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ بِدَلِيلِ جَوَازِ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ فِيهِ خَيْرٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْفِقْهِ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا حَقِيقَةً لَمْ يَجُزْ وَكَمَا فِي

الصفحة 203