كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، وَإِذَا اخْتَصَّ سُلَيْمَانَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - بِالْفَهْمِ، وَهُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ بِالنَّظَرِ فِيهِ كَانَ الْآخَرُ خَطَأً «، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ اُحْكُمْ عَلَى أَنَّك إنْ أَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إنْ أَصَبْتُ فَمِنْ اللَّهِ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ، وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ» ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الْحُقُوقِ مُمْتَنِعٌ اسْتِدْلَالًا بِنَفْسِ الْحُكْمِ وَسَبَبِهِ أَمَّا السَّبَبُ فَلِأَنَّا قُلْنَا إنَّ الْقِيَاسَ تَعْدِيَةُ وَضْعٍ لِدَرْكِ الْحُكْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ، وَكَالتَّمْرِينِ فِي الِاجْتِهَادِ وَاكْتِسَابِ الْمَلَكَةِ عَلَى اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى مَدَارِك الْأَحْكَامِ لِتَحْرِيكِ دَوَاعِيهِمْ إلَى طَلَبِ مَرْتَبَةِ الِاجْتِهَادِ وَنَيْلِ الثَّوَابِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنْ سُقُوطِ فَائِدَةِ الدَّعْوَةِ سُقُوطُ الْمُنَاظَرَةِ لِبَقَاءِ هَذِهِ الْفَوَائِدِ ثُمَّ اسْتَوْضَحَ مَا ذَكَرَ مِنْ سُقُوطِ فَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ وَسُقُوطِ التَّكْلِيفِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي الْحَقِيقَةِ بِقَوْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ أَيْ الْمُنَاظَرَةَ. فِي اخْتِيَارِ وُجُوهِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيْ اخْتِيَارِ أَحَدِ أَنْوَاعِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا حَقٌّ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا أَحَقَّ مِنْ الْبَاقِي فَلَمْ يَكُنْ لِلِاخْتِلَافِ وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ فَائِدَةٌ. وَإِنْ اخْتَارَهُ أَيْ اخْتِيَارُ أَحَدِ الْوُجُوهِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ الْفِعْلُ صَحِيحٌ بِلَا تَأَمُّلٍ أَيْ بِلَا اجْتِهَادٍ فِيهِ.
وَاحْتَجَّ الْقَاضِي الْإِمَامُ لِهَؤُلَاءِ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مَا اجْتَهَدُوا إلَّا لِإِصَابَةِ مَا يَشْهَدُ النُّصُوصَ بِالْحَقِّيَّةِ خَلَفًا عَنْ شَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا النَّاسَ كُلَّهُمْ إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ مَا تَرَى بَيْنَ أَعْدَادِهِمْ اخْتِلَافًا إلَّا بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْغَنَاءِ وَالْفَقْرِ وَنَحْوِهَا، فَالِاجْتِهَادُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ وَاحِدًا فِي حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقَوْلَ بِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَصِيرُوا مُكَلَّفِينَ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ نَفْسِ الْحَقِّيَّةِ لِفَتْوَاهُمْ فَيَبْقَى الْوَاحِدُ أَحَقَّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الشَّرِيعَةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَحْيِ قَوْله تَعَالَى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] دَخَلَ رَجُلَانِ عَلَى دَاوُد وَعِنْدَهُ ابْنُهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَقِيلَ كَانَ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُ وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ إنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئًا فَقَالَ لَك رِقَابُ الْغَنَمِ، وَقَدْ كَانَتْ قِيمَتَاهُمَا مُسْتَوِيَتَيْنِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ هَذَا أَوْفَقُ لِلْفَرِيقَيْنِ يَنْطَلِقُ أَهْلُ الْحَرْثِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُونَ مِنْ أَلْبَانِهَا، وَمَنَافِعِهَا وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ حَتَّى إذَا كَانَتْ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ دَفَعَ هَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ غَنَمَهُمْ، وَهَؤُلَاءِ إلَى هَؤُلَاءِ كَرْمَهُمْ فَقَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت فَأَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78] أَيْ وَاذْكُرْهُمَا إذْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهُمَا {يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} [الأنبياء: 78] النَّفَشُ أَنْ يَنْتَشِرَ الْغَنَمُ بِاللَّيْلِ تَرْعَى بِلَا رَاعٍ مِنْ حَدٍّ دَخَلَ وَضَرَبَ جَمِيعًا {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] لَمْ يَفُتْ عَنَّا مِنْ أَمْرِهِمْ شَيْءٌ وَجَمَعَ الضَّمِيرَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَهُمَا وَالْمُتَحَاكِمِينَ إلَيْهِمَا أَوْ أُرِيدَ بِهِ التَّثْنِيَةُ. فَفَهَّمْنَاهَا الْهَاءُ ضَمِيرُ الْحُكُومَةِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] وَكُلًّا أَيْ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا آتَيْنَا حُكْمًا فَصْلًا بَيْنَ الْخُصُومِ، وَعِلْمًا بِأُمُورِ الدِّينِ.
وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ إذْ لَوْ كَانَ بِالْوَحْيِ لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ خِلَافُهُ، وَلَمَا جَازَ لِدَاوُدَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِهِ ثُمَّ إنَّهُ تَعَالَى خَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فِي الْقَضِيَّةِ، وَمَنَّ عَلَيْهِ، وَكَمَالُ الْمِنَّةِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً فَلَوْ كَانَا مُصِيبَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ دَاوُد قَدْ فَهِمَ مِنْ الْحُكْمِ الصَّوَابَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ مَا فَهِمَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -. وَلَا يُقَالُ كَانَ مَا قَضَى بِهِ دَاوُد جَائِزًا، وَمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ أَفْضَلَ فَلِذَلِكَ اخْتَصَّهُ بِالْفَهْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَاوُد تَرْكَ الْأَفْضَلِ لَمَا وَسِعَ سُلَيْمَانَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ

الصفحة 21