كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

قُلْنَا فِي الْغَاصِبِ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ أَنَّ الزَّرْعَ لِلْغَاصِبِ وَإِنْ كَانَ التَّغَيُّرُ بِطَبْعِ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ
وَأَمَّا الْإِلْقَاءُ فَشَرْطٌ لَكِنَّ الْعِلَّةَ لَمَّا كَانَ مَعْنًى مُسَخَّرًا لَا اخْتِيَارَ لَهُ لَمْ يَصْلُحْ عِلَّةً مَعَ وُجُودِ فِعْلٍ عَنْ اخْتِيَارٍ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَجُعِلَ لِلشَّرْطِ حُكْمُ الْعِلَلِ. .

وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ فَإِنْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُخْتَارٌ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ وَأَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ حَتَّى أَبَقَ لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِبَاقِ هُوَ الْقَيْدُ فَكَانَ حَلُّهُ إزَالَةً لِلْمَانِعِ فَكَانَ شَرْطًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الْإِبَاقُ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَسْبَابِ فَالسَّبَبُ مِمَّا يَتَقَدَّمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ لَكِنَّهَا بِتَسْخِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِتَقْدِيرِهِ بِدُونِ اخْتِيَارٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَلَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ وَالْحُدُوثُ إلَيْهَا فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا لَا يُضَافُ التَّلَفُ إلَى الثِّقَلِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ يَبْقَى عَمَلُ الزَّارِعِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْبَذْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَذْرِ وَالزَّارِعُ بِعَمَلِهِ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ صَالِحٌ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ لِكَوْنِهِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ فَيُمْكِنُ بِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ كَانَ هُوَ مُكْتَسِبًا الزَّرْعَ وَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْمُكْتَسِبِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا اسْتَهْلَكَهُ بِعَمَلِهِ وَقَوْلُهُ إذَا بَذَرَ حِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ يُوهِمُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَكُونُ الزَّرْعُ لَهُ لَكِنْ إطْلَاقُ عِبَارَةِ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ وَكَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا لَا يَفْصِلُ بَيْنَ أَرْضٍ وَأَرْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْحِنْطَةَ الْمَغْصُوبَةَ وَإِنْ زَرَعَهَا فِي أَرْضِ مَالِكِهَا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَهْلِكًا لَهَا بِالزِّرَاعَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَمَلَّكُهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ وَصَارَ كَأَنَّهُ زَرَعَ حِنْطَةَ نَفْسِهِ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ
وَقَوْلُهُ مَعَ وُجُودِ فِعْلٍ عَنْ اخْتِيَارٍ احْتِرَازًا عَنْ سُقُوطِ الْحَبِّ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ حَيْثُ يَكُونُ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ دُونَ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ عَنْ الْعِلَّةِ فَلَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَحَلَّ حُصُولِ الزَّرْعِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ إذْ الْمُحَالُ شُرُوطٌ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ لِكَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْخَارِجِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَالْمِلْكِ وَهَاهُنَا لَمْ يُوجَدْ لَكِنْ وُجِدَ شَرْطُ التَّغَيُّرِ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي الْأَرْضِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ.

قَوْلُهُ (وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي لَهُ حُكْمُ الْأَسْبَابِ) وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ يَعْتَرِضْ أَيْ فَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْفِعْلِ الطَّبِيعِيِّ كَسَيَلَانِ الْمَائِعِ وَسُقُوطِ الْقِنْدِيلِ فِي مَسْأَلَتَيْ شَقِّ الزِّقِّ وَقَطْعِ الْحَبْلِ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ أَيْ إلَى الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ فِي حُكْمِ الْعِلَلِ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّ فِعْلَ الطَّيَرَانِ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ اخْتِيَارٍ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْفَتْحِ عِنْدَهُ كَسَيْرِ الدَّابَّةِ فِي مَسْأَلَةِ السَّوْقِ مَنْسُوبٌ إلَى السَّائِقِ وَإِنْ حَصَلَ عَنْ اخْتِيَارٍ.
وَأَنْ يَكُونَ أَيْ الشَّرْطُ سَابِقًا أَيْ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعْتَرِضِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ بِدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا فَإِنَّهُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى الشَّرْطِ وَلَكِنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ كَانَ شَرْطًا مَحْضًا خَالِيًا عَنْ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالْعِلِّيَّةِ وَذَلِكَ أَيْ الشَّرْطُ الْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِثْلُ رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ أَيْ مِثْلُ حَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ فِي رَجُلٍ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ حَتَّى أَبَقَ فَإِنَّ الْحَالَّ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِمَالِكِهِ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْأَسْرَارِ إلَّا أَنَّهُ احْتَرَزَ عَنْ فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ؛ لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ عَاقِلًا فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فَالْحَالُّ ضَامِنٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا فِي فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ فَالسَّبَبُ أَيْ فَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ مِمَّا يَتَقَدَّمُ

الصفحة 212