كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَالشَّرْطُ مِمَّا يَتَأَخَّرُ ثُمَّ هُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ عِلَّةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ حَادِثَةٍ بِالشَّرْطِ وَكَانَ هَذَا كَمَنْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ ثُمَّ أَتْلَفَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْسِلُ إلَّا أَنَّ الْمُرْسِلَ صَاحِبَ سَبَبٍ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا صَاحِبُ شَرْطٍ جُعِلَ مُسَبِّبًا
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مُفْضٍ إلَى الشَّيْءِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ وَالشَّرْطُ مِمَّا يَتَأَخَّرُ أَيْ الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ الْمَحْضُ يَتَأَخَّرُ وُجُودُهُ عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَدَّمُ عَلَى انْعِقَادِهَا عِلَّةً كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتَ حُرٌّ هُوَ الَّذِي يَنْعَقِدُ عِلَّةً عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَوُجُودُهَا تَكَلُّمًا سَابِقٌ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ.
وَلَا يُقَالُ: الشَّرْطُ كَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ كَالْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ صُورَةً وَمَعْنًى؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ تَقَدُّمَ الشَّرْطِ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا تَقَدَّمَ لَمْ يَتَمَحَّضْ شَرْطًا بَلْ كَانَ شَرْطًا مُشَابَهًا بِالسَّبَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَقَدُّمَ وُجُودِهِ لَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ كَالسَّبَبِ الْحَقِيقِيِّ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلَّةَ لَوْ وُجِدَتْ بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُهَا عَلَى شَيْءٍ فَكَانَ وُجُودُهُ سَابِقًا وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَأَخَّرَ وُجُودُهُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ بَعْدَ وُجُودِ صُورَتِهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ تَمَحَّضَ شَرْطًا وَرَأَيْت فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِأَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا عَارَضَهُ عِلَّةٌ لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ ثُمَّ إنْ كَانَ سَابِقًا كَانَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ مُتَرَاخِيًا كَانَ شَرْطًا مَحْضًا ثُمَّ هُوَ أَيْ حَلُّ الْقَيْدِ وَإِنْ شَابَهَ السَّبَبَ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ شَابَهَ السَّبَبَ الْخَالِصَ لَا السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ مَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ وَحَادِثَةً بِهِ كَقَوْدِ الدَّابَّةِ وَسَوْقِهَا وَهَاهُنَا مَا هُوَ الْعِلَّةُ وَهُوَ الْإِبَاقُ غَيْرُ حَادِثَةٍ بِالشَّرْطِ وَهُوَ حَلُّ الْقَيْدِ بَلْ هِيَ حَادِثَةٌ بِاخْتِيَارٍ صَحِيحٍ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَتُهُ عَنْ الشَّرْطِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ الْمَحْضِ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْعِلَّةِ دُونَ مَا سَبَقَ مِنْ الشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ حَيْثُ يَضْمَنُ الْآمِرُ وَإِنْ اعْتَرَضَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ عَلَى الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِبَاقِ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِبَاقُ يَصِيرُ غَاصِبًا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ كَمَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ فَخَدَمَ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ إذَا عَمِلَ وَفْقَ اسْتِعْمَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لَهَا فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَى الْمُسْتَعْمِلِ فَأَمَّا حَلُّ الْقَيْدِ فَإِزَالَةٌ لِلْمَانِعِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ فِعْلٍ مُخْتَارٍ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ (وَهَذَا) أَيْ حَلُّ الْقَيْدِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ كَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ مِمَّنْ أَرْسَلَهَا فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً عَنْ سَنَنِ الطَّرِيقِ ثُمَّ سَارَتْ أَوْ وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْسِلُ؛ لِأَنَّ بِالْجَوَلَانِ وَالْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ إرْسَالِهِ ثُمَّ إنَّهَا أَنْشَأَتْ سَيْرًا بِاخْتِيَارِهَا فَكَانَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِي أَخَذَتْ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَيَّرَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يُمْكِنُهَا أَنْ تَسِيرَ فِيهِ وَقَدْ سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَكَانَ هُوَ سَائِقًا لَهَا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ فَجَالَتْ عَمَّا إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ فِي وَجْهِهَا شَيْئًا ضَمِنَ الْمُرْسِلُ كَمَا إذَا أَشَارَ بِهَا؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سُنَنِ إرْسَالِهِ إلَّا أَنَّ أَيْ: لَكِنْ الْمُرْسِلُ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ كَيْفَ يَكُونُ حَلُّ الْقَيْدِ وَهُوَ شَرْطٌ كَإِرْسَالِ الدَّابَّةِ وَهُوَ سَبَبٌ فَقَالَ الْمُرْسِلُ صَاحِبُ سَبَبٍ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لَيْسَ بِإِزَالَةِ الْمَانِعِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلٌ مِنْ مُخْتَارٍ وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى السَّبَبِ حَيْثُ لَمْ يَذْهَبْ عَلَى سُنَنِ إرْسَالِهِ

الصفحة 213