كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَإِذَا انْتَقَلَتْ الدَّابَّةُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعًا بِالنَّهَارِ كَانَ هَدَرًا وَكَذَلِكَ بِاللَّيْلِ عِنْدَنَا لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ شَرْطٍ وَلَا سَبَبٍ وَلَا عِلَّةٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ أَوْ بَابَ إصْطَبْلٍ فَخَرَجَتْ الدَّابَّةُ فَضَلَّتْ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ سَبَبًا خَالِصًا فَلَمْ يُجْعَلْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِ بِخِلَافِ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي السُّقُوطِ حَتَّى إذَا أَسْقَطَ نَفْسَهُ فَدَمُهُ هَدَرٌ
كَمَنْ مَشَى عَلَى قَنْطَرَةٍ وَاهِيَةٍ وُضِعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَخُسِفَ بِهِ أَوْ عَلَى مَوْضِعٍ رُشَّ الْمَاءُ عَلَيْهِ فَزَلَقَ فَعَطِبَ هُدِرَ دَمُهُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ هُوَ الْعِلَّةُ وَقَدْ صَلَحَ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَذَا الَّذِي حَلَّ الْقَيْدَ صَاحِبُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّ الْحَلَّ إزَالَةُ الْمَانِعِ عَنْ الْإِبَاقِ جُعِلَ مُسَبَّبًا بِاعْتِبَارِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْعِلَّةِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ فَكَانَا فِي انْقِطَاعِ الْحُكْمِ عَنْهُمَا وَإِضَافَتِهِ إلَى مَا اعْتَرَضَ مِنْ الْفِعْلِ سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ (وَإِذَا انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَتْلَفَتْ زَرْعَهَا بِالنَّهَارِ كَانَ هَدَرًا) بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ وَكَذَلِكَ بِاللَّيْلِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ مَالِكَ الدَّابَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ سَبَبٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ وَلَا شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْتَحْ بَابَ الْإِصْطَبْلِ وَلَا عِلَّةٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ الْإِتْلَافَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ فِي الْإِتْلَافِ بِاللَّيْلِ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ نَاقَةً لَهُ دَخَلَتْ زَرْعَ إنْسَانٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَقَضَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَمَانِهِ وَقَالَ حِفْظُ الزُّرُوعِ عَلَى أَرْبَابِهَا نَهَارًا وَحِفْظُ الدَّوَابِّ عَلَى أَرْبَابِهَا لَيْلًا»
وَقُلْنَا هُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمُؤَوَّلٌ بِأَنَّ صَاحِبَهَا كَانَ يُرِيدُ أَخْذَهَا فَانْفَلَتَتْ بِقَصْدِهِ أَبَاهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّاقَةَ أَفْسَدَتْ الزَّرْعَ لَيْلًا وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْحِفْظَ عَلَى أَصْحَابِ الدَّوَابِّ لَيْلًا حَتَّى لَوْ تَرَكُوا أَتَمُّوا وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الزَّرْعِ لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِ الْحِفْظِ بَلْ بِذَهَابِ الدَّابَّةِ وَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِيهِ وَلَمْ يَتَوَلَّدْ ذَلِكَ مِنْ الْإِرْسَالِ فَكَانَ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ عَلَى مَالِ إنْسَانٍ إلَيْهِ أُشِيرُ فِي الْأَسْرَارِ.
قَوْلُهُ (فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ الطَّيْرُ) يَعْنِي فِي فَوْرِ الْفَتْحِ إذَا الْخِلَافُ فِيهِ فَإِنَّهُ إذَا طَارَ بَعْدَ سَاعَةٍ لَا يَضْمَنُ الْفَاتِحُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَفِي ذِكْرِ الْفَاءِ إشَارَةٌ إلَيْهِ وَكَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْ فَتْحَ بَابِ الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ شَرْطٌ؛ لِأَنَّ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالطَّيَرَانِ جَرَى مَجْرَى السَّبَبِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الشَّرْطَ إذَا تَقَدَّمَ كَانَ لَهُ حُكْمُ السَّبَبِ وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فِعْلُ مُخْتَارٍ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الَّذِي بِهِ تَلَفُ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِالْفَتْحِ بَلْ بِاخْتِيَارِهِمَا الطَّيَرَانَ وَالْخُرُوجَ فَبَقِيَ الْأَوَّلُ وَهُوَ فَتْحُ الْبَابِ سَبَبًا خَالِصًا أَيْ شَرْطًا فِي مَعْنَى السَّبَبِ الْخَالِصِ فَلَمْ يُجْعَلْ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى الْفَتْحِ بَلْ قُصِرَ عَلَى الْخُرُوجِ كَمَا قُصِرَ عَلَى الْإِبَاقِ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ بِخِلَافِ السُّقُوطِ فِي الْبِئْرِ حَيْثُ يُضَافُ التَّلَفُ فِيهِ إلَى الشَّرْطِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ مِنْ السُّقُوطِ هُنَاكَ حَصَلَ لَا عَنْ اخْتِيَارٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعُمْقِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ حَتَّى إذَا أَسْقَطَ نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ هَدَرَ دَمُهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ؛ لِأَنَّ مَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِلْقَاءُ فِي الْبِئْرِ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِصُدُورِهِ مِنْ مُخْتَارٍ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ إلَيْهِ فَانْقَطَعَ بِهِ نِسْبَةُ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ وَاقْتَصَرَ عَلَى الْعِلَّةِ وَبِخِلَافِ سَوْقِ الدَّابَّةِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ مَعْنًى حَامِلٌ عَلَى الذَّهَابِ كَرْهًا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُكْرَهِ وَالْفَتْحُ رَفْعٌ لِلْمَانِعِ وَلَيْسَ بِحَمْلٍ عَلَى الْخُرُوجِ وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ سَبَبٌ حَامِلٌ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ التَّعْلِيمِ كَالسَّوْقِ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَمَّا فَتْحُ الْبَابِ فَلَا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَتَحَ بَابَ الْكَلْبِ حَتَّى خَرَجَ فَصَادَ لَمْ يَحِلَّ وَلَمْ يَمْلِكْ بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ كَمَنْ مَشَى عَلَى قَنْطَرَةٍ وَهِيَ مَا يُبْنَى عَلَى الْمَاءِ لِلْعُبُورِ وَالْجِسْرُ عَامٌّ مَبْنِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ وُضِعَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ وُضِعَتْ فِي

الصفحة 214