كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَيَرَانُ الطَّيْرِ هَدَرٌ شَرْعًا وَكَذَلِكَ فِعْلُ كُلِّ بَهِيمَةٍ فَيُجْعَلُ كَالْخَارِجِ بِلَا اخْتِيَارٍ وَصَارَ كَسَيَلَانِ مَا فِي الزِّقِّ فَإِنْ خَرَجَ عَلَى فَوْرِ الْفَتْحِ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ حُكْمٍ مَا فَأَمَّا لِقَطْعِهِ فَنَعَمْ كَالْكَلْبِ تَمِيلُ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَكَالدَّابَّةِ تَجُولُ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فَكَذَلِكَ هَذَا.

وَلِهَذَا قُلْنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْوَلِيُّ وَالْحَافِرُ فَقَالَ الْوَلِيُّ سَقَطَ وَقَالَ الْآخَرُ أَسْقَطَ نَفْسَهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْحَافِرِ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا إنَّ الْحَفْرَ شَرْطٌ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ لِتَعَذُّرِ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ فَإِذَا ادَّعَى صَاحِبُ الشَّرْطِ أَنَّ الْعِلَّةَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَقَدْ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَجَحَدَ حُكْمًا ضَرُورِيًّا فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْجَارِحِ إذَا ادَّعَى الْمَوْتَ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرِ مِلْكٍ وَفِيمَا لَا تَصَرُّفَ لِوَاضِعِهَا فِيهِ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْمِلْكِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بِحَالٍ؛ لِأَنَّ وَاضِعَهَا لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فِيمَا أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا.
وَقَوْلُهُ عَالِمًا بِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَسْأَلَتَيْنِ أَيْ عَالِمًا بِوَهَاءِ الْقَنْطَرَةِ وَوَضَعَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ وَعَالِمًا بِالرَّشِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ مَشَى عَلَى جِسْرِهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ فَانْخَسَفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ وُقُوعُهُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ لَا إلَى تَسَبُّبِ مَنْ اتَّخَذَ الْجِسْرَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا يَضْمَنُ وَاضِعُ الْجِسْرِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسْبِيبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ وَاضِعَ الْجِسْرِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا عَطِبَ بِهِ وَإِنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَحْدَثَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا.
وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا كَانَ مُحْتَسِبًا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ مُحْتَسِبٌ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا يَعْطَبُ بِهَا وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ هَدَرَ دَمُهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ الطَّيَرَانُ وَالْخُرُوجُ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ وَالطَّيْرِ هَدَرٌ شَرْعًا فَلَمْ يَصْلُحْ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ أَوْ الطَّيْرَ لَا يَصْبِرُ عَنْ الْخُرُوجِ وَالطَّيَرَانِ عَادَةً وَالْعَادَةُ إذَا تَأَكَّدَتْ صَارَتْ طَبِيعَةً لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا فَإِذَا خَرَجَ عَلَى الْفَوْرِ وَاسْتَعْمَلَ عَادَتَهُ كَانَ الْخُرُوجُ عَلَى الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ سَيَلَانِ الدُّهْنِ عِنْدَ شَقِّ الزِّقِّ فَيَكُونُ الْفَتْحُ سَبَبَ ضَمَانٍ كَالشَّقِّ وَلَمْ يُبْطِلْ الْإِضَافَةَ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ الطَّيْرِ وَالدَّابَّةِ فِي الطَّيَرَانِ وَالْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ كَمَا إذَا صَاحَ بِالدَّابَّةِ فَذَهَبَتْ صَارَ ضَامِنًا وَإِنْ ذَهَبَتْ مُخْتَارَةً؛ لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ وَالصِّيَاحُ وَالصَّوْتُ سَائِقٌ فَأَشْبَهَ الْقَوْدَ جَبْرًا وَكَمَا لَوْ أَلْقَى حَيَّةً عَلَى إنْسَانٍ فَلَسَعَتْهُ يَجِبُ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانَتْ الْحَيَّةُ فِي اللَّسْعِ مُخْتَارَةً؛ لِأَنَّ اللَّسْعَ لَهَا عَادَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ فَالْتَحَقَتْ بِالطَّبِيعَةِ وَسَقَطَ اخْتِيَارُهَا وَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ لَا يَضْمَنُ الْفَاتِحُ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ إذَا لَمْ تَخْرُجْ فِي فَوْرِ الْفَتْحِ عُلِمَ أَنَّهَا تَرَكَتْ عَادَتَهَا وَكَانَ الْخُرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاخْتِيَارِ فَأَشْبَهَ حَلَّ قَيْدِ الْعَبْدِ وَالْجَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِمَّا يَذْكُرُ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ وَالسَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّوْقِ؛ لِأَنَّ السَّوْقَ حَمْلٌ عَلَى الذَّهَابِ كَرْهًا كَمَا بَيَّنَّا فَيَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرِهِ وَلَا كَإِلْقَاءِ الْحَيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ إذْ الْإِلْقَاءُ عَلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِيهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.
وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فَتْحُ جُحْرِ الْحَيَّةِ حَتَّى لَوْ فَتَحَ جُحْرَ الْحَيَّةِ فَخَرَجَتْ وَلَسَعَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا كَالْكَلْبِ يَمِيلُ عَنْ سَنَنِ الْإِرْسَالِ يَعْنِي إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَالَ عَنْ سُنَنِهِ ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ مَنْعِ الْإِضَافَةِ عَنْ الْمُرْسِلِ وَنَظِيرُهُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ وَأَلْقَى فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْحَافِرِ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا أَيْ فَكَمَيْلِ الْكَلْبِ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ وَجَوَلَانِ الدَّابَّةِ بَعْدَ الْإِرْسَالِ طَيَرَانُ الطَّيْرِ وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسٌ

الصفحة 215