كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُدَّعِي الْمِيرَاثِ إذَا لَمْ يُشْهِدْ شُهُودَهُ أَنَّا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ؛ لِأَنِّي لَا أَكْفُلُ الْمُدَّعِيَ، وَهَذَا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ الْقُضَاةُ، وَهُوَ جَوْرٌ سَمَّاهُ جَوْرًا، وَهُوَ اجْتِهَادٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ مَائِلٌ عَنْ الْحَقِّ، وَهُوَ مَعْنَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا نَفَذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ اشْتِبَاهًا.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِنَفْسِ الْحُكْمِ فَظَاهِرٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُ أَيْ اجْتِمَاعُ الْمَذْكُورِ يَعْنِي فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ كَالنَّصِّ؛ لِأَنَّهُ خَلَفُ النَّصِّ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ لَا يَخْتَصُّ بِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ فَكَذَا الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ فَكَانَ حُكْمُهُ شَامِلًا لِلْجَمِيعِ كَحُكْمِ النَّصِّ فَيَجْتَمِعُ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَوْ اسْتَفْتَى أَحَدَ الْمُجْتَهِدِينَ لَأَفْتَاهُ بِالْحَظْرِ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمُ الشَّرْعِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، وَلَوْ اسْتَفْتَى الْآخَرَ لَأَفْتَاهُ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَكَانَ الْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ مُجْتَمِعَيْنِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ. بِخِلَافِ اجْتِمَاعِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِي الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُخْتَصَّةٌ بِالْمُضْطَرِّ لَا يَتَعَدَّاهُ وَالْحُرْمَةُ مُخْتَصَّةٌ بِغَيْرِ الْمُضْطَرِّ فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعًا فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ.
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَدِّدًا لَجَازَ لِلَّذِي يَعْمَلُ بِاتِّبَاعِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ كُلِّ مَذْهَبٍ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَثْبَتَ الْكَفَّارَةَ فِي بَابِ الْيَمِينِ أَنْوَاعًا كَانَ لِلْعَبْدِ الْخِيَارُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا يَهْوَاهُ بِلَا دَلِيلٍ، وَمَنْ أَبَاحَ هَذَا فَقَدْ أَبْطَلَ الْحُدُودَ وَشَرَعَ طَرِيقَ الْإِبَاحَةِ وَبَنَى الدِّينَ عَلَى الْهَوَى وَاَللَّهُ تَعَالَى مَا نَهَجَ الدِّينَ إلَّا عَلَى دَلِيلٍ غَيْرِ الْهَوَى مِنْ نَصٍّ ثَابِتٍ بِوَحْيٍ أَوْ قِيَاسٍ شَرْعِيٍّ فَمَنْ جَعَلَ الْحَقَّ حُقُوقًا أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْعَامِّيِّ بِهَوَاهُ، وَمَنْ قَالَ الْحَقُّ فِي وَاحِدٍ أَلْزَمَ الْعَامِّيَّ أَنْ يَتَّبِعَ إمَامًا وَاحِدًا، وَقَعَ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ النَّظَرِ أَنَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ بِهَوَى نَفْسِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ الْقِيَاسَانِ إذَا تَعَارَضَا ثَابِتٌ لِلْمُجْتَهِدِ الْخِيَارُ يَعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ لَا بِهَوَى نَفْسِهِ بَلْ بِالضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي أَحَدِهِمَا وَيَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَمْ يَبْقَ قِبَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى دَلِيلٌ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ سِوَى شَهَادَةِ قَلْبِهِ فَلَزِمَهُ الْعَمَلُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ حُجَجِ الشَّرْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَوَجَبَ اتِّبَاعُ الْخَطَأِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ.
قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ الْخَطَأِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إصَابَةِ الْحَقِّ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كَانَ فِيهَا نَصٌّ أَوْ إجْمَاعٌ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ اجْتَهَدَ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِ فِي الطَّلَبِ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ ظَنِّهِ مَعَ أَنَّهُ خَطَأٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ نَصٍّ عَلَى خِلَافِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَطَأَ جَائِزُ الِاتِّبَاعِ فِي الْفُرُوعِ عِنْدَ ظَنِّ الْإِصَابَةِ وَتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الْحَقِّ.

قَوْلُهُ: (وَصِحَّةُ التَّكْلِيفِ تَحْصِيلٌ بِمَا قُلْنَا) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَا بُدَّ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ تَعَدُّدِ الْحَقِّ إذْ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. فَقَالَ صِحَّةُ التَّكْلِيفِ يَحْصُلُ بِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَإِصَابَتِهِ ابْتِدَاءً يَعْنِي إنَّمَا لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ إذَا كُلِّفُوا بِإِصَابَةِ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْحَقِّ، وَلَمْ يُكَلَّفُوا بِهَا إمَّا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوْ لِخَفَائِهِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بَلْ كُلِّفُوا الِاجْتِهَادَ لِلْإِصَابَةِ فَإِنْ أَصَابُوا أُجِرُوا، وَإِنْ أَخْطَئُوا عُذِرُوا وَأُجِرُوا عَلَى الطَّلَبِ فَكَانُوا مُصِيبِينَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ الْحَقَّ فَلَمْ يَلْزَمْ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. وَهَذَا كَمَنْ أَمَرَ خُدَّامَهُ بِطَلَبِ فَرَسٍ ضَلَّ عَنْهُ فَخَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى جَانِبٍ فِي طَلَبِهِ صَحَّ هَذَا الْأَمْرُ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا فِي الطَّلَبِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنْ مَنْ وَجَدَ الْفَرَسَ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً لِصِحَّةِ طَلَبِهِ وَانْتِهَاءً لِظَفَرِهِ بِالْفَرَسِ وَالْبَاقُونَ مُصِيبُونَ ابْتِدَاءً لِبَذْلِ

الصفحة 24