كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ «وَبِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــQبِدَلِيلِ أَنَّهُ بَقِيَ بَيْنَهُمْ تَعْظِيمُ بَعْضِهِمْ لِلْبَعْضِ وَتَرْكُ إنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَ الْبَعْضِ، وَلَوْ اعْتَقَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُ مُخْطِئٌ لَأَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ. وَبِأَنَّ الْحَقَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لِإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ، وَلَوَجَبَ نَقْضُ كُلِّ حُكْمٍ خَالَفَهُ كَمَا قَالَهُ الْمَرِيسِيِّ وَالْأَصَمُّ وَابْنُ عُلَيَّةَ.
قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَقَّ لَوْ كَانَ وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِدَاءُ بِالْكُلِّ هُدًى بَلْ هُوَ هُدًى؛ لِأَنَّهُ كَمَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي اتِّبَاعِ ظَنِّهِ مُهْتَدٍ صَحَّ لِلْعَامِّيِّ إذَا قَلَّدَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ إجْمَاعًا مُقَلِّدًا كَانَ أَوْ مُجْتَهِدًا إذْ الْمُرَادُ مِنْ الِاهْتِدَاءِ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمَا يَجِبُ؛ وَلِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ بِآحَادِهِمْ إذَا كَانَ اهْتِدَاءً كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِجَمِيعِهِمْ أَوْلَى بِالِاهْتِدَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُمْ أَطْبَقُوا عَلَى تَخْطِئَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَقَّ وَاحِدًا فَكَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي هَذَا اهْتِدَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ صَوَّبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّعْظِيمُ وَتَرْكُ الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ ظَنَّهُ وَالْمُخْطِئُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مُعَيَّنًا يَجِبُ الْإِنْكَارُ حِينَئِذٍ. وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَنُصِبَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ فَاسِدٌ إذْ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمَصْلَحَةُ طَلَبَ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ بِالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ لِنَيْلِ ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ لَا طَلَبِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ مَعَ إمْكَانِ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ. وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نَقْضُ مَا خَالَفَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ.
1 -
قَوْلُهُ: (فَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ مُخْطِئًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَيْ مُخْطِئًا مِنْ الْأَصْلِ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَفِيمَا هُوَ الْحَقُّ حَقِيقَةً فَقَدْ احْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ» ذَكَرَ الْخَطَأَ مُطْلَقًا وَالْخَطَأُ الْمُطْلَقُ مَا هُوَ الْخَطَأُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. قَالُوا وَالِاجْتِهَادُ الْمُؤَدِّي إلَى الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ كَالرَّجُلِ الْمَأْمُورِ بِدُخُولِ بَلَدٍ إذَا سَلَكَ طَرِيقًا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ إنَّهُ مُصِيبٌ فِي قَطْعِ الْمَسَافَةِ الَّتِي قَطَعَهَا، وَلَا إنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِقَطْعِهَا. قَالُوا: وَإِنَّمَا أَلْزَمْنَا الْمُجْتَهِدَ الْعَمَلَ بِقِيَاسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ صَوَابٌ كَمَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِالنَّصِّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، وَمَتَى ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ بَطَلَ الْعَمَلُ بِهِ فَكَذَلِكَ مَتَى عَمِلَ بِالْقِيَاسِ ثُمَّ رُوِيَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ حَتَّى تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ يَقِينًا بَطَلَ مَا أَمْضَى بِقِيَاسِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ، وَمَعَهُ ثَوْبٌ أَوْ مَاءٌ شَكَّ فِي طَهَارَتِهِمَا فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ الطَّهَارَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ فَإِذَا تَبَيَّنَ نَجَاسَتُهُمَا فَسَدَ عَمَلُهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ إطْلَاقِ الْإِصَابَةِ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ جَمِيعًا فَعَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ وَجْهُ الْخَطَأِ وَاشْتَبَهَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ الْعَمَلُ بِأَيِّ قِيَاسٍ كَانَ فَيَكُونُ الْعَمَلُ مِنْ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِقِيَاسِهِ صَوَابًا ظَاهِرًا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ. قَالُوا: وَهَكَذَا تَقُولُ فِي قَوْمٍ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْكَعْبَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَصَلَّوْا إنَّ صَلَاةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَائِزٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ عَلَيْهِ خَطَؤُهُ فَحِينَئِذٍ نَأْمُرُهُ بِالْإِعَادَةِ.
قَوْلُهُ: «وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمُك، وَأَهْلُك اسْتَانَّ بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الْكُفَّارِ، وَقَالَ عُمَرُ: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَذَّبُوك، وَأَخْرَجُوك قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَاك عَنْ الْفِدَاءِ فَمَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَأْيِ

الصفحة 28