كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] وَالْحُكْمُ وَالْعِلْمُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْعَمَلُ فَأَمَّا إصَابَةُ الْمَطْلُوبِ فَمِنْ أَحَدِهِمَا، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَسْرُوقٍ وَالْأَسْوَدُ كِلَاكُمَا أَصَابَ وَصَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إِلَيَّ فِيمَا سُبِقَا مِنْ رَكْعَتَيْ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبِي بَكْرٍ فَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] إلَى آخِرِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرَ» . فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اجْتِهَادَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ صَوَابًا، وَأَنَّ الِاجْتِهَادَ الْآخَرَ كَانَ خَطَأً مِنْ الْأَصْلِ لِاسْتِيجَابِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لَوْلَا الْمَانِعُ، وَهُوَ الْكِتَابُ السَّابِقُ، وَلَوْ كَانَ صَوَابًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ لَمَا اسْتَوْجَبَ بِهِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ لِوُجُودِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْكِتَابِ السَّابِقِ مَا كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ.
وَقِيلَ أَنْ يُحِلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمَ وَالْفِدَاءَ، وَقِيلَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ. ثُمَّ بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ تَمَسَّكَ الْمَرِيسِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ، وَقَالَ الْمُجْتَهِدُ يَأْثَمُ بِالْخَطَأِ وَيُعَاتَبُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ دَلِيلُ الْإِثْمِ؛ وَلِأَنَّ الْخَطَأَ إنَّمَا يَقَعُ لِتَقْصِيرٍ فِي الطَّلَبِ، وَالتَّقْصِيرُ فِي طَلَبِ الْوَاجِبِ دَلِيلُ الْإِثْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَطَأَ فِي أُصُولِ الدِّينِ مُوجِبٌ لِلْإِثْمِ لِقُصُورٍ فِي الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ عَلَى سَبِيلِ الشُّهْرَةِ تَشْنِيعُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ.، وَقَوْلِهِ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ.، وَقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَبْلِغْ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبْطَلَ حَجَّهُ وَجِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَتُبْ. وَقَوْلِ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ، وَهُوَ جَوْرٌ، وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْخَطَأَ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِتَابِ وَالْإِثْمِ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِلتَّشْنِيعِ وَجْهٌ.
قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ) فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا قَالَ لَهُ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ، وَقَالَ فِي آخَرَ «، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» وَالْخَطَأُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ حَسَنَةً، وَلَا سَبَبًا لِلْأَجْرِ بِوَجْهٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي نَفْسِ الِاجْتِهَادِ، وَمُسْتَحِقٌّ لِلْأَجْرِ بِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ. وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] أَخْبَرَ أَنَّهُمَا جَمِيعًا أُوتِيَا مِنْ اللَّهِ عِلْمًا وَحُكْمًا بَعْدَمَا بَيَّنَ أَنَّ سُلَيْمَانَ اخْتَصَّ بِفَهْمِ مَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْخَطَأَ الْمَحْضَ لَا يَكُونُ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَثْبُتُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوَابٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ.
وَهَذَا التَّمَسُّكُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا سَلَّمَ الْخَصْمُ أَنَّ الْمُرَادَ إتْيَانُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ بَلْ يَقُولُ الْمُرَادُ إتْيَانُ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ فِي غَيْرِهِمَا كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَذَا رُوِيَ أَنَّ مَسْرُوقًا وَعَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدَ سُبِقَا بِرَكْعَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا قَامَا إلَى الْقَضَاءِ صَلَّى مَسْرُوقٌ رَكْعَةً وَجَلَسَ ثُمَّ رَكْعَةً وَجَلَسَ وَسَلَّمَ وَصَلَّى الْآخَرُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ كِلَاكُمَا أَصَابَ، وَلَكِنَّ صَنِيعَ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ فَنَظَرَ أَحَدُهُمَا إلَى الْفَائِتِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَعْدَةٌ وَالْآخَرُ إلَى الْبَاقِي فَقَوْلُهُ كِلَاكُمَا أَصَابَ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ، وَقَوْلُهُ صَنِيعُ مَسْرُوقٍ أَحَبُّ إلَيَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَقُلْنَا أَرَادَ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِيمَا عَمِلَ بِاجْتِهَادِهِ، وَمِنْ آخِرِهِ أَنَّ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ مَعَ مَسْرُوقٍ عِنْدَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كِلَا الِاجْتِهَادَيْنِ حَقٌّ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَسْرُوقٌ أَفْضَلُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَائِلِينَ بِالْأَشْبَهِ.
قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ

الصفحة 29