كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُكَلَّفُ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَاسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ وَحَرُمَ الصَّوَابُ وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ إمَّا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ حِرْمَانًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً.
وَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَيْفَ يَكُونُ خَطَأً إلَّا أَنَّ هَذَا كَانَ رُخْصَةً.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصِيبٌ فِي حَقِّ الْعَمَلِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَذْهَبَ عَبْدِ اللَّهِ حَيْثُ قَالَ، وَإِنْ أَخْطَأْتُ فَمِنِّي، وَمِنْ الشَّيْطَانِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ كِلَيْهِمَا أَصَابَ الْحَقَّ حَقِيقَةً، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَحَقُّ بَلْ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَا أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً سَاعَدَنَا فِي أَنَّهُ مُخْطِئٌ لِلْحُكْمِ فَلَا يُمْكِنُهُ حَمْلُ قَوْلِهِ كِلَاكُمَا قَدْ أَصَابَ عَلَى أَنَّهُمَا أَصَابَا الْحُكْمَ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا أَصَابَا فِي الِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُكَلَّفٌ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَفِي وُسْعِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ طَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْحَقِّ دُونَ إصَابَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أُمِرَ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْحَقِّ الَّذِي هُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا بِلَا خِلَافٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْعَمَلِ بِهِ عَلَى شَرْطِ إصَابَةِ الْحَقِّ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ، وَلَكِنْ عَلَى تَحَرِّي الْإِصَابَةِ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مُطْمِعٌ فِي الْإِصَابَةِ فَاسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَى ابْتِدَاءِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كُلِّفَ بِهِ وَحُرِمَ الصَّوَابَ، وَالثَّوَابُ فِي آخِرِهِ أَيْ ثَوَابُ إصَابَةِ الْحَقِّ إمَّا بِسَبَبِ تَقْصِيرٍ مِنْهُ أَوْ بِابْتِدَاءِ حِرْمَانٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذَا كَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ عَلَى تَحَرِّي النُّصْرَةِ كَانَ مُصِيبًا فِي قِتَالِهِ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إعْلَاءِ كَلِمَتِهِ قَتَلَ أَمْ قُتِلَ مُسْتَحِقًّا لِلْأَجْرِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ مُصِيبٌ لَمَّا قَاتَلَ عَلَى تَحَرِّي إصَابَةِ النُّصْرَةِ أَصَابَ أَوْ لَمْ يُصِبْ، وَكَالرُّمَاةِ إذَا نَصَبُوا غَرَضًا فَرَمَوْا عَلَى تَحَرِّي الْإِصَابَةِ كَانُوا مُصِيبِينَ فِي تَحَرِّيهِمْ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا أَخْطَأَ بَعْضُهُمْ الْغَرَضَ، وَأَصَابَ الْبَعْضُ لَمْ يَصِرْ وَاحِدٌ مُخْطِئًا فِي تَحَرِّيهِ الْإِصَابَةَ بِطَرِيقِهِ (فَإِنْ قِيلَ) خَطَؤُهُ فِي تَقْصِيرِهِ فِي طَلَبِ طَرِيقِ الْإِصَابَةِ لَا فِي قَصْدِ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ مِنْ الرَّأْيِ مَا لَوْ بَذَلَ مَجْهُودَهُ كُلَّ الْبَذْلِ لَأَصَابَ الْحَقَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
(قُلْنَا) إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا لَمْ يُكَلِّفْ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لَمْ يُكَلِّفْ بِمَا فِيهِ الْحَرَجُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَفِي بِنَاءِ الْخِطَابِ عَلَى هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ فِي اسْتِعْمَالِ الرَّأْيِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَيَصِيرُ عَفْوًا وَيَجِبُ بِنَاءُ الْخِطَابِ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ لَا يُوَصِّلُنَا إلَى حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي أُصُولِ الدِّينِ فَإِنَّ الْمُخْطِئَ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مُخْطِئٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى دَلَائِلَ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْعِلْمُ يَقِينًا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ فَلَمْ يَجِبْ الْخَطَأُ إلَّا بِقِلَّةِ التَّأَمُّلِ.
فَأَمَّا قِصَّةُ بَدْرٍ فَقَدْ عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِشَارَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ يَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ اجْتِهَادُهُ عَلَى الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمِلَ بِرَأْيِهِ، وَأُقِرَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ، وَلَمَّا أُقِرَّ عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَمِلْ الْخَطَأَ بِوَجْهٍ. إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ أَخْذَ الْفِدَاءِ كَانَ رُخْصَةً.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ عَلَى حُكْمِ الْعَزِيمَةِ لَوْلَا الرُّخْصَةُ أَيْ الْعِتَابُ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ الْعَزِيمَةِ. قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَتَأْوِيلُ الْعِتَابِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وَكَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً خُصِّصَتْ بِهَا رُخْصَةُ {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ بِحُكْمِ الْعَزِيمَةِ عَلَى مَا قَالَهُ عُمَرُ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال: 67] قَبْلَ الْإِثْخَانِ، وَقَدْ أَثْخَنْت يَوْمَ بَدْرٍ فَكَانَ لَك الْأَسْرَى كَمَا كَانَ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، وَلَكِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَسْرَى الْمَنَّ أَوْ الْقَتْلَ دُونَ الْمُفَادَاةِ فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ فِي إبَاحَةِ الْفِدَاءِ لَك لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ

الصفحة 30