كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَيُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَعَ التَّعَرُّضُ بَيْنَ النَّصَّيْنِ فَلَمْ يَفْسُدْ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ وَلَكِنَّ النَّصَّ الْعَامَّ لَحِقَهُ ضَرْبٌ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ بِأَنْ أُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُ مَعَ بَقَائِهِ حُجَّةً عَلَى مَا مَرَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ لَا يَدُلُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ عَزْلُ الدَّلِيلِ عَنْ دَلَالَتِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِنْ دَلَّ ذَلِكَ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ دَلِيلٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ. فَنَقُولُ لَهُ لِأَيِّ مَعْنًى صَارَ عِلَّةً فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إنْ قَالَ بِالْأَثَرِ أَوْ بِالْإِحَالَةِ أَوْ بِغَيْرِهِمَا فَنَقُولُ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ دَلِيلًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ عِلَّةً. فَإِنْ قَالَ هَذَا الْوَصْفُ عِلَّةٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمْنَعَهُ مَانِعٌ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذِكْرَهُ، وَأَضْمَرْنَاهُ كَمَا أَنَّكُمْ تَقُولُونَ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ وَتَعْنُونَ بِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ إجْرَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ. فَنَقُولُ إنْ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَقْرُونًا بِالْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ تَخْصِيصًا لِلْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِيفَاءً لِإِجْرَائِهَا فَزَالَتْ الْمُنَازَعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِهَا كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا، وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّ أَقْوَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ الْمَانِعُونَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ هُوَ أَنَّ تَخْصِيصَهَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً وَطَرِيقًا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُرُوعِ، وَإِذَا مَنَعَ تَخْصِيصُهَا مِنْ كَوْنِهَا طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ فَقَدْ تَمَّ مَا أَرَدْنَاهُ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إذَا عَلِمْنَا أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا هِيَ كَوْنُهُ مَوْزُونًا ثُمَّ عَلِمْنَا مَثَلًا إبَاحَةَ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ مُتَفَاضِلًا مَعَ أَنَّهُ مَوْزُونٌ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ، وَهِيَ أَقْوَى مِنْ عِلَّةِ تَحْرِيمِ الذَّهَبِ أَوْ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ بِنَصٍّ. فَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَتِهِ عِلَّةٌ يُقَاسُ بِهَا الرَّصَاصُ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا بِالْوَزْنِ وَبِعَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الْإِبَاحَةِ فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ التَّحْقِيقِ أَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تَكُنْ كَوْنَهُ مَوْزُونًا فَقَطْ وَأَنْتَ جَعَلْت الْوَزْنَ هُوَ الْعِلَّةُ.
وَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ نَصَّ، وَقَدْ عَلِمْنَا عِلَّةَ إبَاحَتِهِ فَالْكَلَامُ فِيهِ مِثْلُ الْكَلَامِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ عِلَّةَ إبَاحَتِهِ كَانَتْ الْعِلَّةُ مَقْصُورَةً عَلَى الرَّصَاصِ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَعَدَّتْ لَوَجَبَ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُثْبِتَ الشَّارِعُ عِلْمًا عَلَى ذَلِكَ لِيَعْلَمَ ثُبُوتَ حُكْمِهَا فِيمَا عَدَا الرَّصَاصَ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ تَحْرِيمَ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ بِالْوَزْنِ فَقَطْ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِرَصَاصٍ فَيَبْطُلُ بِهَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْوَزْنَ فَقَطْ فَثَبَتَ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُخْرِجُ الْعِلَّةَ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً.
قَالَ وَاَلَّذِي تَبَيَّنَ مَا قُلْنَا مِنْ اشْتِرَاطِ نَفْيِ الْمُخَصِّصِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ اسْتَدَلَّ عَلَى طَرِيقِهِ فِي بَرِّيَّةٍ بِأَمْيَالٍ مَنْصُوبَةٍ ثُمَّ رَأَى مِيلًا لَا يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ أَسْوَدُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدِلُّ فِيمَا بَعْدُ عَلَى طَرِيقِهِ بِوُجُودِ مِيلٍ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ غَيْرُ أَسْوَدَ فَقَدْ صَحَّ مَا أَرَدْنَاهُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ.
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكِتَابِ: أَنَّ تَفْسِيرَ الْخُصُوصِ أَيْ تَخْصِيصَ الْعَامِّ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ فِي أَبْوَابِ الْعَامِّ أَنَّ دَلِيلَ الْخُصُوصِ شَبَّهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِنَفْسِهِ وَيُشَبِّهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْخُصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعُمُومِ كَالِاسْتِثْنَاءِ، وَلِهَذَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِيُمْكِنَ أَنْ يُجْعَلَ الْعَامُّ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كَمَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِيُمْكِنَ جَعْلُهُ تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَيْ إذَا كَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الْأَمْرَيْنِ، وَمَعَ التَّعَارُضِ ظَاهِرًا بَيْنَ النَّصَّيْنِ، وَهُمَا صِيغَةُ الْعَامِّ وَدَلِيلُ الْخُصُوصِ. فَلَمْ يَفْسُدْ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَيْ لَمْ يَبْطُلْ النَّصُّ الْعَامُّ بِلُحُوقِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ بِهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ

الصفحة 37