كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ جَائِزٌ كَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِالطَّرْدِ، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ أَوْلَى مِنْهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْقِيَاسِ، وَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا أَيْضًا بَقِيَ الِاسْمُ، وَإِنْ صَارَ مَرْجُوحًا فَإِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَرَكْت الِاسْتِحْسَانَ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ فِيهِ عِلَّةً سِوَى عِلَّةِ الْأَصْلِ أَوْ مَعْنًى آخَرَ يُوجِبُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَأَنَّ الْأَحَبَّ أَنْ يَذْهَبَ إلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدِي مَا أَخَذْت بِهِ وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إذَا كَانَ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ اسْتِحْسَانًا تَسْمِيَةً وَمَعْنًى، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ اسْتِحْسَانًا تَسْمِيَةً لَا مَعْنًى، وَالِاسْتِحْسَانُ مَعْنًى هُوَ الْقِيَاسُ.
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِحْسَانَ بِالْأَثَرِ وَالْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ مُسْتَحْسَنٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ الِاسْتِحْسَانَ بِالرَّأْيِ فَإِنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِالتَّشَهِّي عَلَى زَعْمٍ فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى دَفْعِ طَعْنِهِمْ بِقَوْلِهِ إنَّمَا الِاسْتِحْسَانُ أَيْ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي وَقَعَ التَّنَازُعُ فِيهِ عِنْدَنَا أَيْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لَا أَنْ يَكُونَ قِسْمًا آخَرَ اخْتَرَعُوهُ بِالتَّشَهِّي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا فِي حَادِثَةٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لِيُعْمَلَ بِهِ إذَا أَمْكَنَ لَكِنَّهُ سُمِّيَ بِهِ أَيْ لَكِنَّ أَحَدَ الْقِيَاسَيْنِ سُمِّيَ بِالِاسْتِحْسَانِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ بِهِ لِتَرَجُّحِهِ عَلَى الْآخَرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَمَّوْهُ اسْتِحْسَانًا لِلتَّمَيُّزِ بَيْنَ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ الَّذِي تَذْهَبُ إلَيْهِ الْأَوْهَامُ، وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لَهُ، وَهُوَ نَظِيرُ عِبَارَاتِ أَهْلِ الصِّنَاعَاتِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الطُّرُقِ لِمَعْرِفَةِ الْمُرَادِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّحْوِ يَقُولُونَ هَذَا نَصْبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَهَذَا نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَعَانِي النَّاصِبَةِ، وَأَهْلُ الْعَرُوضِ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ الْبَحْرِ الطَّوِيلِ، وَهَذَا مِنْ الْبَحْرِ الْمُتَقَارِبِ، وَهَذَا مِنْ الْبَحْرِ الْمَدِيدِ فَكَذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا اسْتَعْمَلُوا عِبَارَةَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَخَصَّصُوا أَحَدَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ لِكَوْنِ الْعَمَلِ بِهِ مُسْتَحْسَنًا، وَلِكَوْنِهِ مَائِلًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ الظَّاهِرِ فَسَمَّوْهُ بِهَذَا الِاسْمِ لِوُجُودِ مَعْنَى الِاسْمِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْعِبَادَةِ الْمَعْهُودَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ عَادَةً.
فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّيْخِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ دَفْعُ الطَّعْنِ، وَإِبَانَةُ الْمُرَادِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لَا تَعْرِيفُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أَقْسَامِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا غَرَضُنَا هَاهُنَا أَيْ فِي هَذَا الْبَابِ تَقْسِيمُ وُجُوهِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا بَيَانُ جَمِيعِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ. قَوْلُهُ: (إنَّهُ الْوَجْهُ الْأَوْلَى فِي الْعَمَلِ) ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يُوهِمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ الَّذِي عَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ جَائِزٌ لَكِنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَوْلَى، وَأَنَّ الْعَمَلَ بِالطَّرْدِ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ أَيْ الْعَمَلُ بِالْمُؤَثِّرِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالطَّرْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا ظَنَّ أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ أَوْلَى مَعَ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ وَشَبَّهَ ذَلِكَ بِالطَّرْدِ مَعَ الْمُؤَثِّرِ، وَقَالَ الْعَمَلُ بِالْمُؤَثِّرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالطَّرْدِ جَائِزًا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا وَهْمٌ عِنْدِي فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ، وَالْمَتْرُوكُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ وَرُبَّمَا قِيلَ إلَّا أَنِّي أَسْتَقْبِحُ ذَلِكَ، وَمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ الدَّلِيلِ شَرْعًا فَاسْتِقْبَاحُهُ يَكُونُ كُفْرًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ فِي مُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ أَصْلًا، وَأَنَّ الْأَضْعَفَ يَسْقُطُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ بَعْدَهُ بِأَسْطُرٍ مَا يُوَافِقُ هَذَا حَيْثُ قَالَ فَسَقَطَ حُكْمُ الْقِيَاسِ بِمُعَارَضَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِعَدَمِهِ فِي التَّقْدِيرِ، وَقَالَ فَصَارَ هَذَا بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ

الصفحة 4