كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَهَذَا طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنْ تُرِكَ بِالنَّصِّ قَدْ عُدِمَ حُكْمُ الْعِلَّةِ لِعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تُجْعَلْ عِلَّةً فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَبَطَلَ حُكْمُهَا لِعَدَمِهَا لَا مَعَ قِيَامِهَا بِدَلِيلِ الْخُصُوصِ بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ صَاحِبَهُ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَارَضَهُ إجْمَاعٌ أَوْ ضَرُورَةٌ لَمْ يَبْقَ الْوَصْفُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ فِي الضَّرُورَةِ إجْمَاعًا أَيْضًا وَالْإِجْمَاعُ مِثْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَمَّا إذَا عَارَضَهُ اسْتِحْسَانٌ أَوْجَبَ عَدَمَ الْأَوَّلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَصَارَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِنَا فِي الصَّائِمِ إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ يَفْسُدُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ رُكْنُهُ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّاسِي فَمَنْ أَجَازَ الْخُصُوصَ قَالَ امْتَنَعَ حُكْمُ هَذَا التَّعْلِيلِ ثَمَّةَ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْأَثَرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةِ بَعْدَهَا وَبِالنُّقْصَانِ يَفُوتُ بَعْضُ الْعِلَّةِ، وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ بَعْضِهِ فَيَحْصُلُ التَّغَيُّرُ ضَرُورَةً، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ الْعِلَّةُ صَارَتْ مَعْدُومَةً حُكْمًا فَيُنْسَبُ عَدَمُ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا إلَى مَانِعٍ أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّاهِدَ مَعَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْأَدَاءِ إذَا تَرَكَ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ فِيمَا أَعْلَمُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ مَعْنًى. وَنَظِيرُ زِيَادَةِ الْوَصْفِ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ شَرْعًا، وَمَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا بَلْ يَصِيرُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ غَيْرُ الْمُطْلَقِ فَيَكُونُ مَا هُوَ الْعِلَّةُ مَعْدُومًا كَذَا قِيلَ. وَنَظِيرُ النُّقْصَانِ الزِّنَا حَالَةَ الْإِحْصَانِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلرَّجْمِ فَإِذَا فَاتَ الْإِحْصَانُ لَمْ يَبْقَ الزِّنَا بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ عِلَّةً لِلرَّجْمِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ) ذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ جَائِزٌ وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا بِالِاسْتِحْسَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى التَّخْصِيصِ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ وَالِاسْتِحْسَانِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ قَدْ امْتَنَعَ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِالتَّخْصِيصِ.
فَرَدَّ الشَّيْخُ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَهَذَا أَيْ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إضَافَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ هُوَ طَرِيقُ أَصْحَابِنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا طَرِيقُ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ إذَا عَارَضَ الْقِيَاسَ لَمْ يَبْقَ الْقِيَاسُ عِلَّةً؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِحْسَانِ سَوَاءٌ كَانَ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ يُوجِبُ عَدَمَ الْقِيَاسِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي نَفْسِهِ إذًا مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ لِمَا مَرَّ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّةِ الْمَانِعِ أَوْجَبَ الْخُصُوصَ. بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ أَيْ النَّصِّ الْعَامِّ وَالنَّصِّ الْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا حَيْثُ يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يُفْسِدُ الْآخَرَ لِمَا بَيَّنَّا فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ ضَرُورَةً.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْفَرْقِ: إنَّ النَّصَّيْنِ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا فَالْعَامُّ لَا يَنْعَدِمُ بِالْخَاصِّ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْ النَّصَّيْنِ تَوَهُّمُ الْفَسَادِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْخَاصَّ كَانَ مُخَصِّصًا لِلْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ مِنْ حُكْمِ الْعَامِّ مَعَ بَقَاءِ الْعَامِّ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَمَكَّنَ فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَعَارِ فِيمَا هُوَ حَقِيقَةُ حُكْمِ الْعَامِّ فَأَمَّا الْعِلَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَفِيهَا احْتِمَالُ الْخَطَأِ وَالْفَسَادِ، وَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِعْدَامَ حُكْمًا فَإِذَا جَاءَ مَا يُغَيِّرُهَا جَعَلْنَاهَا مَعْدُومَةً حُكْمًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثُمَّ انْعِدَامُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ أَيْ مِثْلَ مَا قُلْنَا فِي الْقِيَاسِ مَعَ الِاسْتِحْسَانِ مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْعِلَلِ إذَا تَخَلَّفَ أَحْكَامُهَا عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَعْنِي الْعَدَمَ مُضَافٌ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ لَا إلَى الْمَانِعِ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَيْ بَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ قَوْلُنَا فِي الصَّائِمِ إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي حَلْقِهِ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِصَوْمِهِ بِطَرِيقِ الْإِكْرَاهِ إنَّ صَوْمَهُ يَفْسُدُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ رُكْنَ الصَّوْمِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ قَدْ فَاتَ لِوُصُولِ الْمُغَذِّي إلَى جَوْفِهِ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ النَّاسِي فَإِنَّ صَوْمَهُ لَا يَفْسُدُ مَعَ فَوَاتِ الرُّكْنِ حَقِيقَةً. فَمَنْ أَجَازَ الْخُصُوصَ أَيْ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ قَالَ امْتَنَعَ حُكْمُ هَذَا التَّعْلِيلِ فِي صُورَةِ النِّسْيَانِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ الْأَثَرُ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ. وَنَحْنُ نَقُولُ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي النَّاسِي لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ

الصفحة 40