كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْقَتْلِ أَوْ الْقَطْعِ رُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ عَنْهَا لَا يَنْقَطِعُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهَا إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْحَبْسِ أَنَّهَا لَا تُحَدُّ؛ لِأَنَّ الْكَامِلَ يُوجِبُ الرُّخْصَةَ فَصَارَ الْقَاصِرُ شُبْهَةً بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ قِسْمَيْنِ قِسْمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقِيدَةِ ضَرُورَةٌ لَمْ تَحْتَمِلْ الرُّخْصَةُ بِالتَّبْدِيلِ وَدَخَلَتْ الرُّخْصَةُ فِي الْأَدَاءِ لِلضَّرُورَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ الصَّوْمَ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَالْفِطْرُ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ.
قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَمِثْلُ إفْسَادِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى اسْتِهْلَاكُ أَمْوَالِ النَّاسِ يُرَخَّصُ فِيهِ أَيْ اسْتِهْلَاكِهَا بِالْإِكْرَاهِ التَّامِّ دُونَ الْقَاصِرِ حَتَّى لَوْ قِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتَدْفَعُهُ إلَيَّ أَوْ تَرْمِيهِ فِي مُهْلِكَةٍ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ فَاسْتَقَامَ أَنْ يَجْعَلَ الْمَالَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَإِنْ كَانَ مَالُ الْغَيْرِ بِخِلَافِ طَرَفِ الْغَيْرِ حَيْثُ لَا يَسْتَقِيمُ جَعْلُهُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مُبْتَذَلٌ فِي نَفْسِهِ وَالْحُرْمَةُ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلِهَذَا يُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ فَأَمَّا الطَّرَفُ فَمُحْتَرَمٌ احْتِرَامَ النَّفْسِ وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ قَطْعُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَلَا يَصْلُحُ جَعْلُهُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَلَكِنَّ أَخْذُ الْمَالِ ظُلْمٌ يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الصَّبْرُ عَنْهُ كَمَا فِي مَالِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لِلِابْتِذَالِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَحُرْمَتُهُ دُونَ حُرْمَةِ النَّفْسِ لَكِنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ وَإِتْلَافِهِ ظُلْمٌ وَعِصْمَةُ صَاحِبِ الْمَالِ فِي الْمَالِ قَائِمَةٌ أَيْ عِصْمَتُهُ لِأَجْلِ صَاحِبِ الْمَالِ بَاقِيَةٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ وَحَاجَتُهُ إلَيْهِ بَاقِيَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَبَقِيَ الْمَالُ حَرَامَ التَّعَرُّضِ فِي نَفْسِهِ لِبَقَاءِ دَلِيلِ الِاحْتِرَامِ.
وَالرُّخْصَةُ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرَّمِ أَيْ يُعَامَلُ بِهِ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ فَإِذَا صَبَرَ عَنْ التَّعَرُّضِ حَتَّى قُتِلَ فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ مَالِ الْغَيْرِ وَلِإِقَامَةِ حَقٍّ مُحْتَرَمٍ وَهُوَ حَقُّ صَاحِبِ الْمَالِ فَصَارَ شَهِيدًا وَأَلْحَقَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاسْتِثْنَاءَ بِهَذَا الْجَوَابِ فَقَالَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هَاهُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ

قَوْلُهُ (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ) أَيْ وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْقَطْعِ رُخِّصَ لَهَا فِي ذَلِكَ أَيْ فِي التَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا حَتَّى سَقَطَ الْحَدُّ وَالْإِثْمُ عَنْهَا وَلَوْ صَبَرَتْ كَانَتْ مَأْجُورَةً؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ تَمْكِينَهَا مِنْ الزِّنَا تَعَرُّضٌ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ فِي الْمَحَلِّ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ حُقُوقِهِ مِنْ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَيَكُونُ حَرَامًا وَلَيْسَ فِي التَّمْكِينِ مَعْنَى الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّرَخُّصِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ لِمَا ذَكَرَ فَيَثْبُتُ التَّرَخُّصُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ الْكَامِلِ وَلِهَذَا أَيْ وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الْكَامِلَ فِي جَانِبِهَا يُوجِبُ التَّرَخُّصَ صَارَ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَوْ بِالْقَيْدِ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهَا كَمَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ الْكَامِلَ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ التَّرَخُّصَ فِي حَقِّهِ لَا يَصِيرُ الْقَاصِرُ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِالْكَامِلِ أَيْضًا كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَإِنَّ الِانْتِشَارَ لَا يَحْصُلُ عِنْدَ الْخَوْفِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ التَّمْكِينَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَعَ الْخَوْفِ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ.
إلَّا أَنَّ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْقُطُ كَمَا رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْزَجِرًا إلَى أَنْ تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ وَخَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِقْدَامِ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ لَا اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِشُبْهَةٍ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا بِالْفُحُولِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ فِي الرِّجَالِ وَقَدْ يَكُونُ طَوْعًا أَلَا يَرَى أَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ طَبْعًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لَهُ وَلَا قَصْدٍ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْخَوْفِ.
قَوْلُهُ (فَصَارَ هَذَا الْقِسْمُ) أَيْ الَّذِي لَا يَسْقُطُ وَيَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَصْلًا مِثْلُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِيمَانِ الْقَائِمِ أَيْ الْمَوْجُودِ فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى رُكْنَيْنِ أَحَدُهُمَا الِاعْتِقَادُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ وَحُرْمَةُ

الصفحة 400