كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَقُلْنَا نَحْنُ: الْعَدَمُ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ النَّاسِي مَنْسُوبٌ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ فَسَقَطَ عَنْهُ مَعْنَى الْجِنَايَةِ، وَصَارَ الْفِعْلُ عَفْوًا فَفِي الصَّوْمِ لِبَقَاءِ رُكْنِهِ لَا لِمَانِعٍ مَعَ فَوَاتِ رُكْنِهِ، وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ لَمَّا صَارَ سَبَبَ مِلْكٍ بَدَلَ الْمَالِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُبْدَلِ.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِيهِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ فَكَانَ هَذَا تَخْصِيصًا، وَهَذَا بَاطِلٌ.
وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ عَدَمٌ لِعَدَمِ هَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبًا لِمِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ لَكِنَّهُ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ النَّقْلِ فَاَلَّذِي جُعِلَ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ جَعَلْنَاهُ دَلِيلَ الْعَدَمِ، وَهَذَا أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ احْفَظْهُ، وَأَحْكِمْهُ فَفِيهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ، وَمُخَلِّصٌ كَبِيرٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْخُصُوصُ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَشْفُ قَائِمَةٍ بِصِيغَتِهَا، وَالْخُصُوصُ يَرِدُ عَلَى الْعِبَارَاتِ دُونَ الْمَعَانِي الْخَالِصَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهَا عُدِمَتْ بِسَبَبِ زِيَادَةٍ الْتَحَقَتْ بِهَا، وَهِيَ أَنَّ فِعْلَ النَّاسِي نُسِبَ إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِقَوْلِهِ: «إنَّمَا أَطْعَمَك اللَّهُ وَسَقَاك» فَصَارَ فِعْلُهُ بِهَذِهِ النِّسْبَةِ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا كَانَ رُكْنُ الصَّوْمِ بَاقِيًا فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ، وَهُوَ الْفِطْرُ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفِطْرِ لَا لِمَانِعٍ مَنَعَ مِنْ الْفِطْرِ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ.
قَالُوا فِيهِ إنْكَارُ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَانْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ. أَمَّا الْحِسُّ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ قَدْ وُجِدَ حِسًّا وَالْفِعْلُ الْحِسِّيُّ لَا يَقْبَلُ الِارْتِفَاعَ حَقِيقَةً، وَلَا حُكْمًا إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْمُطَابَقَةُ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَكْلِ وَالْكَفِّ مُتَحَقِّقَةٌ عَقْلًا، وَقَدْ حَكَمَ صَرِيحُ الْعَقْلِ بِوُقُوعِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِلَا رَيْبٍ فَانْتَفَى الْآخَرُ ضَرُورَةً. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُفْطِرُ فَأَكَلَ نَاسِيًا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ. وَأَمَّا انْقِلَابُ الْحَقِيقَةِ فَلِوُجُودِ الْأَكْلِ حَقِيقَةً فَلَوْ قُلْنَا بِعَدَمِهِ يُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ الْأَكْلَ غَيْرَ أَكْلٍ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ لَا نَجْعَلُهُ سَبَبًا لِلْفِطْرِ بِنِسْبَتِهِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ التَّسْبِيبُ، وَمَسْأَلَةُ الْفِطْرِ مَمْنُوعَةٌ. وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْغَصْبِ إنَّهُ لَمَّا صَارَ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ، وَهُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَبَبَ مِلْكِ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْمَغْصُوبُ تَحْقِيقًا لِلتَّسَاوِي وَاحْتِرَازًا عَنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ يَعْنِي يَلْزَمُ عَلَيْهِ الْمُدَبَّرُ فَإِنَّ غَصْبَهُ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْمِلْكِ فِي قِيمَتِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِدُونِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْغَاصِبِ فِيهِ فَلَوْ قِيلَ إنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمُدَبَّرِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، وَهُوَ بَاطِلٌ. وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا إنَّ الْحُكْمَ عَدَمٌ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لِانْتِقَاصِ وَصْفٍ مِنْهَا، وَهُوَ كَوْنُ الْغَصْبِ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْيَدِ لَا سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَقَرُّرُ الْمِلْكِ فِي ضَمَانٍ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْعَيْنِ وَضَمَانُ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ كَوْنِ الضَّمَانِ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنُ مُحْتَمِلَةً لِلتَّمْلِيكِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ بَلْ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ لِلْمَالِكِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَعَ جَرَيَانِ الْعِتْقِ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لِلْمَالِكِ، وَمَالِيَّتُهُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ، وَلَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ كَمَا فِي الْقِنِّ وَالْغَاصِبِ قَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَكَانَ الضَّمَانُ بِمُقَابَلَتِهَا لِتَعَذُّرِ إيجَابِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ عُدِمَتْ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْغَصْبَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ وَالْغَصْبُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ سَبَبَ مِلْكِ بَدَلِ الْعَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُبْدَلِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِلْمَانِعِ. فَاَلَّذِي جَعَلَ عِنْدَهُمْ دَلِيلَ الْخُصُوصِ أَيْ جُعِلَ مَانِعًا لِلْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ مِنْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ. جَعَلْنَاهُ أَيْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ دَلِيلَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا أَيْ جَعْلُ دَلِيلِ الْخُصُوصِ دَلِيلَ الْعَدَمِ. أَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ، وَهُوَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ فَاحْفَظْ هَذَا الْأَصْلَ، وَأَحْكِمْهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فِقْهًا كَثِيرًا، وَمُخَلِّصًا كَبِيرًا.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُعَلِّلَ يَحْتَاجُ فِي رِعَايَةِ هَذَا الْأَصْلِ إلَى ضَبْطِ جَمِيعِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ صُورَةٍ لِيُمْكِنَهُ رَدُّ مَا يَرِدُ نَقْضًا عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ جَمِيعَ صُوَرِ التَّخْصِيصِ يَبْطُلُ بِهَذَا الْأَصْلِ فَكَانَتْ رِعَايَتُهُ وَاجِبَةً. قَوْلُهُ: (وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْخُصُوصُ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ) أَيْ يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِالتَّخْصِيصِ فِي الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِصِيَغِهَا أَيْ بِصُوَرِهَا لَا بِمَعَانِيهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الطَّرْدِ جَعَلُوا نَفْسَ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَأْثِيرٍ فَكَانَ مُوجِبًا بِصِيغَتِهِ كَالنَّصِّ فَإِذَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ يَلْزَمُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى

الصفحة 41