كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَالْمُخَلِّصُ عَنْ هَذَا أَنْ يُخَرَّجَ الْكَلَامُ مَخْرَجَ الِاسْتِدْلَالِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْمُخَلِّصُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا نَظِيرَانِ مِثْلُ التَّوْأَمِ وَذَلِكَ قَوْلُنَا مَا يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ إذَا صَحَّ كَالْحَجِّ فَقَالُوا الْحَجُّ إنَّمَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَقَالُوا إنَّمَا يُوَلَّى عَلَى الْبِكْرِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا فَقُلْنَا: النَّذْرُ لَمَّا وَقَعَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَسْبِيبًا لَزِمَتْهُ مُرَاعَاتُهُ بِابْتِدَاءِ الْمُبَاشَرَةِ، وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ النَّذْرِ وَبِالشُّرُوعِ حَصَلَ فِعْلُ الْقُرْبَةِ فَلَأَنْ يَجِبَ مُرَاعَاتُهُ بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ أَوْلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ غَيْرِ فَرْقٍ.
قَوْلُهُ: (الْمُخَلِّصُ مِنْ هَذَا) أَيْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ يَدْفَعُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَعْدَ وُرُودِهِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ لَا يَرِدَ عَلَيْهِ هَذَا الْقَلْبُ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُخْرِجَ الْكَلَامَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ لَا بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى شَيْءٍ وَذَلِكَ الشَّيْءُ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مَوْجُودٌ فَيَجُوزُ رُؤْيَتُهُ، وَأَنْ يُقَالَ يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ فَيَكُونُ مَوْجُودًا، وَكَذَا يَكُونُ الدُّخَانُ دَلِيلًا عَلَى النَّارِ وَالنَّارُ دَلِيلًا عَلَى الدُّخَانِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِحُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْحَوَادِثِ عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ.
وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا الْمُخَلِّصُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الشَّيْئَيْنِ نَظِيرَانِ أَيْ مِثْلَانِ مُتَسَاوِيَانِ فَيَدُلُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْأَمَيْنِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْأَصْلِ لِأَحَدِهِمَا بِثُبُوتِهَا فِي الْآخَرِ وَيَثْبُتُ الرِّقُّ فِي أَيِّهِمَا كَانَ بِثُبُوتِهِ فِي الْآخَرِ، وَكَذَا النَّسَبُ يَثْبُتُ فِيهِمَا بِثُبُوتِهِ لِأَحَدِهِمَا وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ غَيْرُ مُثْبَتٍ بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ فِي عَيْنِ مَا كَانَ هُوَ مَدْلُولُهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي التَّوْأَمَيْنِ فَأَمَّا الْعِلَّةُ فَمُثْبِتَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ ثَابِتًا بِشَيْءٍ، وَمُثْبِتًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ سَابِقَةً عَلَى الْحُكْمِ رُتْبَةً، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْبِقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَالتَّوْأَمُ اسْمٌ لِلْوَلَدِ إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ يُقَالُ هُمَا تَوْأَمَانِ، وَقَوْلُهُمْ هُمَا تَوْأَمٌ خَطَأٌ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَذَلِكَ أَيْ الْمَخْلَصُ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مَخْرَجَ الِاسْتِدْلَالِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُكْمَيْنِ لَا فِيمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا اسْتَدَلُّوا فِي أَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّافِلَةِ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ فَقَالُوا مَا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ إذَا صَحَّ الشُّرُوعُ وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، كَالْحَجِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ، وَقَالُوا فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ لِلْوَلِيِّ إنَّهُ - الضَّمِيرُ لِلشَّانِّ - يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ فَقَلَبَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ.
فَأَشَارَ الشَّيْخُ إلَى بَيَانِ الْمُخَلِّصِ بِقَوْلِهِ فَقُلْنَا النَّذْرُ لَمَّا وَقَعَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ تَسَبُّبًا يَعْنِي النَّذْرَ سَبَبُ قُرْبَةٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ عَلَى سَبِيلِ التَّقَرُّبِ ثُمَّ لَزِمَتْهُ مُرَاعَاةُ النَّذْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْقُرْبَةِ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِابْتِدَاءِ مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْقُرْبَةِ صِيَانَةً لِلسَّبَبِ عَنْ الْبُطْلَانِ مَعَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُبَاشَرَةِ مُنْفَصِلٌ عَنْ النَّذْرِ وَبِالشُّرُوعِ حَصَلَ فِعْلُ الْقُرْبَةِ حَقِيقَةً فَلَأَنْ يَجِبَ مُرَاعَاةُ هَذَا الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ قُرْبَةً بِالثَّبَاتِ عَلَيْهِ أَيْ بِإِلْزَامِ الْإِتْمَامِ صِيَانَةً لَهُ عَنْ الْبُطْلَانِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ وَحَقِيقَةُ الْقُرْبَةِ أَوْلَى بِالصِّيَانَةِ مِنْ سَبَبِهَا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُمْ عَلَيْنَا؛ لِأَنَّا نَسْتَدِلُّ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحْصِيلُ عِبَادَةٍ زَائِدَةٍ هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْمُضِيُّ فِيهَا لَازِمًا وَالرُّجُوعُ عَنْهَا بَعْدَ الْأَدَاءِ حَرَامٌ، وَإِبْطَالُهَا بَعْدَ الصِّحَّةِ جِنَايَةٌ فَبَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ تَارَةً وَذَلِكَ عَلَى هَذَا تَارَةً قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ الشُّرُوعُ مَعَ النَّذْرِ فِي الْإِيجَابِ بِمَنْزِلَةِ تَوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا

الصفحة 54