كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْهُ فَهُوَ قَلْبُ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ شَاهِدًا عَلَيْك فَقَلَبْته فَجَعَلْته شَاهِدًا لَك، وَكَانَ ظَهْرُهُ إلَيْك فَصَارَ وَجْهُهُ إلَيْك فَنَقَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فَصَارَتْ مُعَارَضَةً فِيهَا مُنَاقَضَةٌ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ بِقِيَاسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ إلَّا بِتَرْجِيحٍ وَلَا يُوجِبُ تَنَاقُضًا إلَّا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بِوَصْفٍ زَائِدٍ فِيهِ تَقْرِيرٌ لِلْأَوَّلِ وَتَفْسِيرُهُ فَكَانَ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّهُ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعَيُّنِ النِّيَّةِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ فَقُلْنَا لَمَّا كَانَ صَوْمًا فَرْضًا اسْتَغْنَى عَنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِ كَصَوْمِ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ، وَهَذَا تَعَيَّنَ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ بِثَلَاثَةٍ كَغَسْلِ الْوَجْهِ فَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَّا كَانَ رُكْنًا فِي الْوُضُوءِ وَجَبَ أَنْ لَا يُسَنَّ تَثْلِيثُهُ بَعْدَ إكْمَالِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْفَرْضِ كَغَسْلِ الْوَجْهِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ يَتَأَدَّى بِالْقَلِيلِ فَيَكُونُ اسْتِيعَابُهُ تَكْمِيلًا لِلْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْرَارِ فِي الْوَجْهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْإِيمَاءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا دُونَ الْأَذْكَارِ كَالْأَخْرَسِ وَالْأُمِّيِّ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، يَسْقُطُ مِنْهُ أَيْ مِنْ الشَّفْعِ الثَّانِي أَوْ مِنْ الْمُصَلِّي فِي الشَّفْعِ الثَّانِي أَحَدُ وَصْفَيْهِ أَيْ أَحَدُ وَصْفَيْ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَلَمْ يَجْهَرْ بِحَالٍ إمَامًا كَانَ أَوْ مُنْفَرِدًا فَفَسَدَ الِاسْتِدْلَال أَيْ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِوُجُوبِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الْجَمِيعِ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ.

[النَّوْعُ الثَّانِي الْمُعَارَضَة الْخَالِصَة]
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا) (النَّوْعُ الثَّانِي مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْقَلْبِ فَهُوَ مِنْ قَلْبِ الشَّيْءِ أَيْ مَأْخُوذٌ مِنْ قَلْبِ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ أَيْ جَعْلُ ظَهْرِهِ بَطْنًا وَبَطْنِهِ ظَهْرًا مِثْلُ قَلْبِ الْجِرَابِ، وَذَلِكَ أَيْ الْقَلْبُ الْمَأْخُوذُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ شَاهِدًا أَيْ حُجَّةً عَلَيْك فَقَلَبْته فَجَعَلْته شَاهِدًا لَك فَنَقَضَ أَيْ أَبْطَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَيْ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ صَاحِبَهُ لِمَا نُبَيِّنُ فَصَارَتْ أَيْ صَارَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْقَلْبِ، وَالتَّأْنِيثُ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ مُعَارَضَةً؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ تَعْلِيلُ الْمُعَلِّلِ وَمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ حَدِّ الْمُعَارَضَةِ فِيهِ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ أَيْ إبْطَالٌ لِلتَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْحُكْمُ وَالْوَصْفُ الَّذِي يَشْهَدُ بِثُبُوتِهِ مِنْ وَجْهٍ وَبِانْتِفَائِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ تَكُونُ مُتَنَاقِضًا فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ الَّذِي يَشْهَدُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ لِلْخَصْمِ الْآخَرِ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَإِنَّهُ يَتَنَاقَضُ كَلَامُهُ بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ بِقِيَاسٍ آخَرَ حَيْثُ لَا تَكُونُ مُنَاقَضَةً؛ لِأَنَّهُ أَيْ التَّعَارُضَ يُوجِبُ الِاشْتِبَاهَ فَيَتَعَذَّرُ الْعَمَلُ لِلِاشْتِبَاهِ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانٌ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ تَنَاقُضًا أَيْ إبْطَالًا لِلْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ هَذَا أَيْ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْقَلْبِ لَا يَكُونُ أَيْ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِوَصْفٍ زَائِدٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعَلِّلُ.
فِيهِ أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَصْفِ الزَّائِدِ تَقْرِيرٌ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ الْقَلْبُ يَكُونُ بِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ فَإِذَا زِيدَ عَلَيْهِ وَصْفٌ آخَرُ لَمْ يَبْقَ بِعَيْنِهِ عِلَّةً فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ مُعَارَضَةً مَحْضَةً غَيْرَ مُتَضَمَّنَةٍ لِمَعْنَى الْإِبْطَالِ فَقَالَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ لِلْوَصْفِ الْأَوَّلِ، وَتَقْرِيرٌ لَهُ لَا تَغْيِيرٌ فَلَا تَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَالَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ هَذَا صَوْمُ فَرْضٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِعَدَمِ بَقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامَاتِ مَشْرُوعًا مَعَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَلْبِيسًا عَلَيْنَا فَنَحْنُ فَسَّرْنَا الصَّوْمَ الْمَذْكُورَ تَفْسِيرًا تَرَكَهُ الْخَصْمُ وَبَيَّنَّا مَحَلَّ النِّزَاعِ فَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الصَّوْمِ مِنْ الْقَضَاءِ مَا بَعْدَ الشُّرُوعِ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّهُ رُكْنٌ، وَلَمْ يُفَسِّرْ أَنَّهُ إكْمَالٌ بِأَمْثَالِ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ فَنَحْنُ بَيَّنَّا ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ تَغْيِيرًا بَلْ كَانَ قَلْبًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ بِعَيْنِهِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِذَا تَعَارَضَا سَقَطَ كَلَامُ الْمُجِيبِ لَكِنَّهُ أَيْ الْقَضَاءَ تَعَيَّنَ بِالشُّرُوعِ وَهَذَا أَيْ صَوْمُ رَمَضَانَ تَعَيَّنَ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا تَقَعُ الْمُفَارَقَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ وَالتَّقْسِيمِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا، وَلَمْ يَذْكُرْ عَامَّةُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ فِي كُتُبِهِمْ، وَفَسَّرُوا الْقَلْبَ بِأَنَّهُ تَعْلِيقُ نَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِيَاسٍ بِالرَّدِّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ، وَأَرَادُوا بِالنَّقِيضِ مَا يُنَافِي الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ وَلَا يُجْمَعُ مَعَهُ، وَإِنَّمَا

الصفحة 56