كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــQاشْتَرَطَ الرَّدَّ إلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ إلَى أَصْلٍ آخَرَ فَحُكْمُ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْآخَرِ إنْ وُجِدَ فِي هَذَا الْأَصْلِ كَانَ الرَّدُّ إلَيْهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَا يُمْكِنُهُ مَنْعُ وُجُودِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِيهِ وَيُمْكِنُهُ مَنْعُ وُجُودِهَا فِي أَصْلٍ آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ نَقْضًا عَلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ حَاصِلٌ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ.
ثُمَّ قَسَّمُوهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا لَهُ أَيْضًا وَالْأَوَّلُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ لَهُ مِثَالٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ فِي غَيْرِ النُّصُوصِ وَذَلِكَ كَمَا لَوْ اسْتَدَلَّ مَنْ وَرَّثَ الْخَالَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» فَيُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ الْجَرْعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ وَالصَّبْرُ حِيلَةُ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ. وَالثَّانِي ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ الْقَالِبُ فِي الْقَلْبِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ، وَثَانِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْخَصْمِ صَرِيحًا.
وَثَالِثُهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِإِبْطَالِهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ بِأَنْ يُرَتِّبَ عَلَى الدَّلِيلِ حُكْمًا يَلْزَمُ مِنْهُ إبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ مِثَالُ الْأَوَّلِ مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ: لُبْثٌ مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ عِبَادَةٍ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: لُبْثٌ مَخْصُوصٌ فَلَا يَكُونُ الصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ إلَّا أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ أَشَارَ بِعِلَّتِهِ إلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَالْمُعْتَرِضُ أَشَارَ إلَى نَفْيِ اشْتِرَاطِهِ صَرِيحًا.
وَقَدْ يَتَّفِقُ تَعَرُّضُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ صَرِيحًا كَقَوْلِ الشَّافِعِيَّةِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ طَهَارَةٌ تُرَادُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَلَا تَجُوزُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ اعْتِرَاضًا طَهَارَةٌ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَتَصِحُّ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ صَرِيحًا. وَمِثَالُ الثَّانِي مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ عُضْوًا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يَكْتَفِي فِيهِ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّأْسِ كَغَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبْعِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَقَدْ تَعَرَّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي دَلِيلِهِ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ صَرِيحًا وَلَيْسَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْحِيحُ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مَذْهَبَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَائِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَائِلَيْنِ، وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعًا عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ ثَالِثٍ.
وَمِثَالُ الثَّالِثِ: مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُعَوَّضِ كَالنِّكَاحِ. فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ عَقْدُهُ مُعَاوَضَةٌ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ فَالْمُعْتَرِضُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ الْقَوْلُ بِالصِّحَّةِ صَرِيحًا بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ قَالَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ انْتِفَاءُ الصِّحَّةِ.
قُلْت هَذِهِ أَقْيِسَةٌ لَيْسَتْ بِمُنَاسِبَةٍ فَضْلًا مِنْ أَنْ تَكُونَ مُؤَثِّرَةً بَلْ بَعْضُهَا طَرْدِيَّةٌ وَبَعْضُهَا شَبَهِيَّةٌ فَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الشَّارِطُونَ لِلتَّأْثِيرِ الْمُعْتَرِضُونَ مِنْ الطَّرْدِ وَالشَّبَهِ كَيْفَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ مِثْلُ هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ، وَكَيْفَ يُعَلِّلُونَ بِهَا، وَالِالْتِفَاتُ إلَى مِثْلِهَا لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِمْ وَهَجِيرِهِمْ لَكِنَّ الْمُخَالِفِينَ وَضَعُوهَا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وَنَسَبُوهَا إلَى أَصْحَابِنَا، وَأَوْرَدُوهَا

الصفحة 57