كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَأَمَّا الْخَامِسُ فَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ لَكِنْ فِيهِ نَفْيٌ لِلْأَوَّلِ أَيْضًا مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الَّتِي نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا فَنَكَحَتْ وَوَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَ الْأَوَّلُ حَيًّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ فَإِنْ عَارَضَهُ الْخَصْمُ بِأَنَّ الثَّانِيَ صَاحِبُ فِرَاشٍ فَاسِدٍ فَيُسْتَوْجَبُ بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ كَرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَلَدَتْ فَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ فِي الظَّاهِرِ فَاسِدَةٌ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ مِنْ زَيْدٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ عَمْرٍو صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ بِمَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ فَاحْتَاجَ الْخَصْمُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَنَّ فِرَاشَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ ثُمَّ عَارَضَهُ الْخَصْمُ بِأَنَّ الثَّانِيَ شَاهِدٌ وَالْمَاءُ مَاؤُهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الصِّحَّةَ وَالْمِلْكَ أَحَقُّ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْحَضْرَةِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ شُبْهَةٌ فَلَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ فَيَفْسُدُ التَّرْجِيحُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْبَقَاءِ، وَلَيْسَ إلَى السَّائِلِ الْبِنَاءُ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الْفَسَادِ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ فَلَا تَصْلُحُ لِدَفْعِ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ إلَيْهِ أُشِيرَ فِي التَّقْوِيمِ وَفِي إيرَادِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ فِي أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ مِنْ السُّؤَالِ مَا فِي إيرَادِ النَّوْعِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ جِهَةَ صِحَّةِ الْمُعَارَضَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ تَعْلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ أَيْضًا فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُعَارَضَةً لَا يَكُونُ خَالِصَةً.

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْخَامِسُ فَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي يَأْتِي السَّائِلُ بِحُكْمٍ يُخَالِفُ حُكْمًا آخَرَ، وَإِلَّا يُخَالِفُ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ صُورَةً لَكِنْ فِيهِ أَيْ فِيمَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْمُعَارَضَةِ مِنْ الْحُكْمِ نَفْيٌ مِنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَمَا فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِلَفْظِهِ أَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَ السَّائِلِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ إنَّ الثَّانِيَ يَسْتَوْجِبُ نَسَبَ الْوَلَدِ يُعَارِضُ عَدَمَ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِلثَّانِي، وَلَا يُعَارِضُ ثُبُوتَ النَّسَبِ لِلْأَوَّلِ صُورَةً إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا النَّوْعِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ إنَّ مَحَلَّ حُكْمَيْ الْمُسْتَدِلِّ وَالسَّائِلِ مُخْتَلِفٌ فِي هَذَا النَّوْعِ.
وَفِيمَا تَقَدَّمَ كَانَ الْمَحَلُّ وَاحِدًا مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مِثْلَ مُعَارَضَةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا أَيْ أُخْبِرَتْ بِمَوْتِهِ مِنْ نَعَى النَّاعِي الْمَيِّتَ نَعْيًا إذَا أَخْبَرَ بِمَوْتِهِ، وَهُوَ مَنْعِيٌّ فَاعْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ حَضَرَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَكَانَ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ كَمَا إذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَجَاءَتْ بِالْأَوْلَادِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ بِأَنَّ الثَّانِيَ صَاحِبُ فِرَاشٍ فَاسِدٍ إلَى آخِرِهِ فَهَذِهِ مُعَارَضَةٌ فَاسِدَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ يَعْنِي مِنْ شَرْطِ الْمُعَارَضَةِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الَّذِي يَتَوَارَدُ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حُجَّةً لِلْمُدَافَعَةِ وَالْمُدَافَعَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِيمَا قُلْنَا، وَهَاهُنَا الْحُكْمُ مُخْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ عَلَّلَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْأَوَّلِ، وَالسَّائِلُ عَلَّلَ لِإِثْبَاتِهِ مِنْ الثَّانِي، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ لِنَفْيِهِ عَنْ الْأَوَّلِ لِيَتَوَارَدَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فَفَسَدَتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي التَّقْوِيمِ وَغَيْرِهِ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ فَقِيلَ هُوَ إثْبَاتٌ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَوْضَحُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ الْأَوَّلِ.
وَالسَّائِلُ أَثْبَتَ النَّسَبَ لِلثَّانِي فَكَانَ مَحَلُّ الْحُكْمِ مُخْتَلِفًا فَفَسَدَتْ الْمُعَارَضَةُ لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ إذْ مِنْ شَرْطِهَا اتِّحَادُ الْمَحَلِّ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّ فِيهَا صِحَّةً مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ مِنْ عَمْرٍو مَثَلًا وَهُوَ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مِنْ زَيْدٍ، وَهُوَ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ ثُبُوتِهِ مِنْ شَخْصَيْنِ فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ نَفْيَ النَّسَبِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَقَدْ وُجِدَ مَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي، وَهُوَ الْفِرَاشُ الْفَاسِدُ فَصَحَّتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ: إنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَوْ ثَبَتَ مِنْ الْحَاضِرِ انْتَفَى مِنْ الْغَائِبِ لَكِنْ الْحُكْمُ الَّذِي ادَّعَاهُ الْمُجِيبُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ السَّائِلِ الْحُكْمَ الَّذِي ادَّعَاهُ، وَلَيْسَ إلَيْهِ إثْبَاتُهُ، وَإِنَّمَا إلَيْهِ الْإِبْطَالُ بِالْمُدَافَعَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَتَكُونُ مُعَارَضَةً فَاسِدَةً فَاحْتَاجَ الْخَصْمُ إلَى التَّرْجِيحِ، وَلَمَّا صَحَّتْ الْمُعَارَضَةُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ احْتَاجَ الْخَصْمُ، وَهُوَ الْمُجِيبُ إلَى تَرْجِيحِ مَا ادَّعَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ بِأَنْ يَقُولَ فِرَاشُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَالْمِلْكُ قَائِمٌ حَقِيقَةً، وَفِرَاشُ الزَّوْجِ الثَّانِي فَاسِدٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِالِاعْتِبَارِ.
كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ، وَاحِدُ الْفِرَاشَيْنِ صَحِيحٌ وَالْآخَرُ فَاسِدٌ، ثُمَّ عَارَضَهُ الْخَصْمُ، وَهُوَ السَّائِلُ بِأَنَّ الثَّانِيَ شَاهِدٌ أَيْ حَاضِرٌ

الصفحة 63