كتاب كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (اسم الجزء: 4)

وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ إنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ أَتْلَفَهُ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَالِاسْتِحْلَالُ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمُتْلَفِ كَمَا إذَا أَتْلَفَهُ دَفْعًا لِلْمَخْمَصَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مَالُ الْبَاغِي، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ؛ لِأَنَّ عِصْمَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِهَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ طَرْدًا لَا نَقْضًا، وَكَذَلِكَ مَتَى قُلْنَا فِي الدَّمِ إنَّهُ نَجَسٌ خَارِجٌ فَكَانَ حَدَثًا لَمْ يَلْزَمْ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ أَيْضًا لَكِنْ عَمَلُهُ امْتَنَعَ لِمَانِعٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّبَبَ، وَهُوَ الْغَصْبُ امْتَنَعَ حُكْمُهُ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِمَانِعٍ وَهُوَ حَقُّ الْمُدَبَّرِ نَظَرًا لِلْمُدَبَّرِ لَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمْ يُوجَدْ كَالْبَيْعِ يُضَافُ إلَى الْمُدَبَّرِ يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي حَقِّهِ لِمَا قُلْنَا، وَإِنْ امْتَنَعَ حُكْمُهُ لِلْمَانِعِ، وَإِذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ كَانَ الْحُكْمُ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا نَظَرًا إلَى اقْتِضَاءِ الْعِلَّةِ إيَّاهُ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا بَلْ يَكُونُ طَرْدًا وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ أَنْكَرَهُ فَالْغَصْبُ فِي الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْعَيْنِ فَكَانَ عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمٍ لَا لِمَانِعٍ مَعَ وُجُودِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ.
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْقِسْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ إنْكَارِهِ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ اتِّبَاعًا لِلْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ أَوْرَدَهُ فِي التَّقْوِيمِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ عِنْدَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ بَعْدَ بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الدَّفْعَ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَسْلَمُ عَنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ الدَّفْعِ مِثْلُ إنْكَارِهِ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَظُنُّهَا مِنْ مُصَنَّفَاتِ الشَّيْخِ فِي بَيَانِ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْغَصْبَ سَبَبٌ لِأَمَارَةِ مِلْكِ الْمُبْدَلِ فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّ فِي فَصْلِ الْمُدَبَّرِ إنَّمَا لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا؛ لِأَنَّ فِي الْمَحَلِّ مَانِعًا كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِإِفَادَةِ الْمِلْكِ ثُمَّ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُدَبَّرِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِمَانِعٍ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هَاهُنَا فَجُعِلَ السَّبَبُ غَيْرَ مُنْعَقِدٍ لِلْمَانِعِ فَكَانَ الْحُكْمُ مَعْدُومًا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَا لِوُجُودِهَا مَعَ الْمَانِعِ.
قَوْلُهُ: (وَمِثْلُ قَوْلِنَا فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ) الْجَمَلُ إذَا صَالَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ الْمَصُولُ عَلَيْهِ يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ الصَّائِلِ وَالْعَبْدِ الصَّائِلِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْمَصُولَ عَلَيْهِ أَتْلَفَ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ قَبْلَ الصِّيَالِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْقَتْلِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا تُنَافِي عِصْمَةَ الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ يَحْصُلُ مَعَ بَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ بِإِبَاحَةِ الْإِتْلَافِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ لِدَفْعِ الْمَخْمَصَةِ، وَكَمَا فِي مُبَاشَرَةِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْعُذْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ.
وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ إذَا أَتْلَفَ الْعَادِلُ مَالَ الْبَاغِي حَالَ الْقِتَالِ وَالْبَغْيِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِثْلُ إتْلَافِ نَفْسِ الْبَاغِي، وَإِتْلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ إذَا صَالَ عَلَيْهِ بِالسِّلَاحِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إتْلَافٌ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ ثُمَّ عِصْمَةُ الْمَحَلِّ قَدْ سَقَطَتْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ حَتَّى لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ إحْيَاءً لِنَفْسِهِ، فَيُدْفَعُ هَذَا النَّقْضُ بِالْحُكْمِ بِأَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي تِلْكَ الصُّوَرِ سَقَطَتْ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ إحْيَاءُ الْمُهْجَةِ لَكِنَّهَا سَقَطَتْ بِالْبَغْيِ فِي حَقِّ الْبَاغِي وَبِالصِّيَالِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّ الدَّمِ وَالْحَيَاةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَبَطَلَتْ حُرْمَتُهُ بِصِيَالِهِ كَمَا تَبْطُلُ حُرْمَةُ الْحُرِّ بِصِيَالِهِ، وَبُطْلَانُ حَقِّ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ التَّبَعِ كَمَا فِي إقْرَارِهِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَكَانَ أَيْ إتْلَافُ مَالِ الْبَاغِي، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ طَرْدًا أَيْ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى لَا نَقْضًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَقْضًا أَنْ لَوْ وُجِدَ الْإِتْلَافُ مُنَافِيًا لِلْعِصْمَةِ مُوجِبًا سُقُوطَهَا فِي صُوَرِ النَّقْضِ، وَلَمْ يُوجَدْ بَلْ السُّقُوطُ وُجِدَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لَا بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ حُكْمُ الْإِتْلَافِ، وَهُوَ عَدَمُ مُنَافَاتِهِ لِلْعِصْمَةِ مَوْجُودًا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كَمَا فِي إتْلَافِ الْجَمَلِ الصَّائِلِ لَكِنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُودَ مَعْنًى آخَرَ مُسْقِطٍ لِلْعِصْمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِسْلَامَ مَعَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْعِصْمَةِ لَا يَمْنَعُ حُدُوثَ مَعْنًى آخَرَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ فَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ

الصفحة 73